قال ابن خلدون: الإنسان فوضويّ بالطبع
سارع "الرسميون" إلى محو كتابات احتجاجية وضعها شباب متظاهرون على قاعدة تمثال ابن خلدون في تونس، وكأنهم يتخلّصون من رجس. كما سارع آخرون للتنديد والاستهجان ضدّ الاعتداء على أحد رموز المعرفة والهوية.
لكن الرسائل وصلت، إلى أصحابها وإلى غير أصحابها. وصلت حتى عبر منتقديها. وصلت -عبر ابن خلدون- مفرداتُ ثقافة غاضبة من فوق منصّة أنشأتها وتحبّ أن تحتكرها الثقافة الرسمية. الأمر طبيعي جداً، كل مربّع في فسيفساء الفضاء السوسيوثقافي هو ميدان حرب مواقع بين المتصارعين. ما حدث هو أن معركة دارت فوق مربع ابن خلدون.
ربما علينا أن ننتبه إلى أن جزءاً كبيراً من الثقافة في تونس بات خارج كل مناطق الإضاءة. جرى استعمال ابن خلدون -بشكل عفوي ربّما- كفانوس يتيح لنا أن نرى ما يعتمل في فضاءات الثقافات التحتية في المجتمع. هناك غضب. هناك استعداد للتخريب والسخرية الجارحة. هناك انتصار للفوضى حيثما فشل النظام.
أحياناً تقوم هذه الحركات على أفكار أكثر متانة وعمقاً مما تقوم عليه مقولات الثقافة الرسمية. هناك إحالات إلى تراث احتجاجيّ واسع، ذي أفق عالميّ، تختلط فيه تيارات الفوضوية والنسوية وما بعد الكولونيالية، والأيديولوجيا اليسارية بلا شك. مقابل ذلك، بماذا تتغذّى مقولات المهرولين إلى مسح ما كتبه المحتجون؟ هذا سؤال يُفضي إلى خواء مُدوّخٍ.
لننظر إلى تلك الاقتباسات التي يقترحها هؤلاء في قاعدة التمثال: "لا سبيل إلى العمارة إلا بالعدل" - "التاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار.. وفي باطنه نظر وتحقيق" - "الإنسان مدني بطبعه". أليس هذا النوع من الفقر الفكري أخطر على المجتمع؟
لا بدّ من تذويب ابن خلدون في الحياة العامة. لا بدّ من تفتيت الكتلة الحجرية وإدماجها في تصاريف الزمن
أي عقل صغير ذلك الذي لا يستخرج لنا من ابن خلدون إلا العبارات المكرورة نفسها التي صارت مُضغة، وتفسّخ منها كل بريق. ألم يكن تجديد قاعدة التمثال مناسبة كي ننتقي من مدوّنة "العلّامة" أفكاراً ذكية، طريفة، تغذّي حياتنا اليومية، وتجعلنا ننتبه إلى ما لم نره من قبل في نصّه.
لن تذهب بنا تلك الاقتباسات إلى أبعد من المعرفة السطحية السائدة عن ابن خلدون. إنها لا تشير سوى إلى المحدودية المعرفية لمن يختارونها. الأدهى أنهم يحشرون بلداً برمّته في المربع الضيّق لثقافتهم.
بصرياً، بدا التمثال -بعد "التخريب"- أجمل وأكثر حيوية. لأوّل مرة يتزحزح من تصلّبه وتجهّمه. لأوّل مرة تدخل الألوان إلى ذلك الحجر الكئيب. أخيراً، يندرج ابن خلدون في دورة الحياة وهو يحمل احتجاجات شريحة من الشباب. لعلّ فوضاهم هي الورقة الأخيرة لجعل المتيبّس سائلاً. الفوضوية - أحياناً - هي الأفق الحيّ، أليس الإنسان بما سيكون، بملكته المستقبلية التي تجعل من غده أحد مكوّنات كينونته الأساسية. دون ذلك ويكون الإنسان دجاجة في قن.
كانت حركة الكتابة الغاضبة على التمثال لحظة تنفيس تشير إلى عدوانية، لا شكّ، تجاه رمزية ابن خلدون، وقد استخدمته الدولة، فبات في مرمى غضب المُحتجين على سوء تصرّفها. ضرَبَ "التخريب" احتكار الدولة لابن خلدون. طالما استثمرت فيه ووظّفته. حتى إذا وظّفه غيرُها استاءت.
بدت تونس، نهاية الأسبوع، متأرجحة بين ثقافة المحو وثقافة التخريب. بين ثقافة إعادة كل شيء إلى المربّعات الأولى وثقافة الذهاب إلى المجهول. من يحكم بأن المجهول أسوأ مما تعيشه البلاد؟ ومن ينسى أن بين هاذين الحدّين طيف واسع من الألوان؟
في حدّ ذاته، إن استعمال ابن خلدون ضمن فعل احتجاجيّ ضد الدولة التونسية ونظامها وجيهٌ للغاية. ربما لم يختر المحتجّون أفضل وسيلة، ولكنهم رموا بحجر في البركة. لا بدّ من تذويب ابن خلدون في الحياة العامة. لا بدّ من تفتيت الكتلة الحجرية وإدماجها في تصاريف الزمن.
لا بدّ من مزيد تفعيل ابن خلدون وتشغيله وتوظيفه. وإلا كان صنماً صار تحطيمه واجباً كي لا يعطّل الحياة أكثر.
كلّ تخشّب. كلّ تصلّب. كلّ تحنيط.
إلى هشاشة.