كيف تفكر الجماهير في السياسة؟
كثيراً ما تثير الأزمات السياسية السؤال عن فهم الناس للسياسة، ولردّ فعلهم غير المتوقع دائماً. وعندما يُسأل السياسي عن سبب فشله في الانتخابات مثلاً، أو خروجه مهزوماً في أيّ منافسة تحتاج إلى تصويت الناس، يبرّر ذلك بغياب وعي الجماهير وفهمها للظروف والسياقات التي تحكم الوضع.
في التجربة السياسية التونسية، لم يسلم الناس من اتهامهم بالسذاجة والغباء، من قبل تيارات سياسية مختلفة، للنتائج السلبية التي تحصل عليها تلك التيارات في كلّ انتخابات. وقد مثّلت تجربة تحوّل الحكم المفاجئ في تونس، من النظام البرلماني المنتخب، إلى النظام الرئاسوي مع رئيس الدولة، قيس سعيّد، في 25 يوليو/ تموز 2021، آخر المحطات التي شاهدنا فيها تجليّاً واضحاً لموقف الناس من السياسة.
الآلاف خرجوا إلى الشوارع فرحاً واستبشاراً، بقرار إيقاف أشغال مجلس نواب الشعب، وتجميد عمله. وقد فُهم من هذا الموقف، عند أنصار الأحزاب، على أنه جهل واضح من الأفراد بالشأن السياسي، وتخلّفهم عن التصرّف بمنطق عقلاني، في مواقف لا يغفرها التاريخ.
في الحقيقة، الناس لا تفكر كذات واحدة، تفكيراً عقلياً محضاً. ولا يوجد مجتمع "واعٍ وذكي" كما يمكن أن نتصوّر. هناك جماعات تحكمها "أهواء" وأفكار غير منتظمة، ودوافع نفسية واجتماعية لا إرادية، شاهدنا فعلها في الأحداث المذكورة، في سلوك مفاجئ غير مبرّر منطقياً. أي إنه لا يمكن أن تجد للجماهير "هوية" سياسية تترجم التعبير عنها برفض أو قبول حالة ما، وإنما "جماعات نفسية" غير منتظمة أو مؤطرة، وتعبّر عن موقف إيديولوجي أو سياسي. وبالتالي، لا يمكن أن نحاسب الناس على فعلهم الجماعي، أو ما نرى أنه فعل جماعي مدبّر تدبيراً عقلياً محكماً، حيث إنّ السلوكات الجماعية لا تتشكل بناءً على خيارات فردية متفهمة للسياق السياسي، ونتائج فعلها، واستراتيجيات تفكيرها، بقدر ما هي فعل، أو ردّة فعل، عاطفية مؤقتة، تحل محلّ إرادات الأفراد المستقلة والمنفتحة على التفكير الإيجابي والعقلي السليم.
يتخلّى الفرد عن مميزاته الذاتية، في التفكير العقلي، والفعل المستقل، وينخرط مع مجموع الأفراد انخراطاً لاواعياً، لا يستوعبه الفرد ذاته في لحظة صفاء ذهني
يتميّز الفرد المنخرط في الجمهور، بحسب غوستاف لوبون، بثلاث خصائص أساسية، هي "تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاوعية، توجّه الجميع ضمن ذات الخط، بواسطة التحريض والعدوى والممارسة المباشرة". وبالتالي، فإنّ الفرد يتخلّى عن مميزاته الذاتية، في التفكير العقلي، والفعل المستقل، وينخرط مع مجموع الأفراد انخراطاً لاواعياً، لا يستوعبه الفرد ذاته في لحظة صفاء ذهني... يقول لوبون: "إن تخلّي النبلاء الفرنسيين عن كلّ امتيازاتهم وتصويتهم على قرار التخلّي هذا، في لحظة حماسة واندفاع في تلك الليلة الشهيرة 4 أغسطس/ آب من عام 1789، ما كان ممكناً أن يحصل، أو يُقبل من قبل كلّ واحد منهم مأخوذاً على حدة".
إذاً، هل يمكن أن نُخضع الفعل الجماعي للمحاسبة العقلية؟ قطعاً لا. والأمثلة على ذلك كثيرة في تونس، منها ما حدث يوم 25 يوليو/ تموز، حيث إنّ البلاد شهدت خروج أنصار بعض الأحزاب الحاكمة فعلاً، وصاحبة الأغلبية في البرلمان والحكومة وقتها، فرحاً بقرار حلّ البرلمان. وعلى العكس من ذلك، فقد فرحت للقرار نفسه أحزاب معارضة موجودة أيضاً في البرلمان حينها. بينما يوجد نوابها ومسؤولوها اليوم في السجون، بسبب مواقفهم الرافضة للسياسات الجديدة. كذلك، تتضح الازدواجية في التفكير الجماهيري، من قبل الأغلبية الساحقة من الناس، من خلال الرفض الواضح للأوضاع التي وصلنا إليها خلال هذه التجربة، بالرغم من تعبيرهم لقبولها أول الأمر.