كيف نقرأ "يوميّات نور" لشكري المبخوت؟
نميّز في مقاربتنا لرواية شكري المبخوت الأخيرة "يوميات نور، في العشر الأواخر من الأربعين" بين مستويين من مستويات السرد: الحكاية، وحكاية الحكاية. فبواسطة هذه الازدواجية "التقنية"، تستمد تجربة المبخوت السردية الجديدة طرافتها وعمقها وتفرض على القارئ أن يوليها اهتمامًا خاصًا.
أمّا الحكاية، فتتخذ من "اليوميات" مدخلًا لسيرة ذاتية واسعة. وانطلاقًا من الفصل المنهجي المتفق عليه بين "اليوميات" و"السيرة الذاتية"، يمكننا القول هنا إنّ اليوميات تخصّ زمن الحكي: عشرة أيام قضتها نور في دبي (أو توهمنا بذلك)، أمّا مضمونها فلا يقتصر على تفاصيل تلك الأيام القليلة، بل يتضمن استعادة لأحداث ماضية تعود إلى زمن الطفولة، بما يجعل من هذه العشر الأواخر إطارًا لسيرة ذاتية تستغرق أربعين عامًا.
والعناصر الأساسية للحكاية الأم من حيث هي حكاية "سير ذاتية" يتضمنها العنوان بوصفه العتبة الأولى، أو "مفتاح الحكاية". إذ يحدّد "الخطة السردية" على النحو التالي: شكل النص "يوميات" تخص كاتبة اسمها "نور" ستستغرق عشرة أيام سبقت احتفالها بعيد ميلادها الأربعين. ويمثل العنوان بشكله هذا صيغة من صيغ التعاقد مع القارئ توحي ظاهريًا بالوضوح من خلال الصبغة التقريرية والوظيفة التأطيرية. وإن كان العنوان بصيغته هذه لا يخلو من الرمزية والإيحاء، إذ إن مصطلح "العشر الأواخر" مصطلح ديني يحيل على معنى ذروة التعبّد والإخلاص لله، كما ترتبط "الأربعون" بسن الحكمة والنبوة والوحي، وهي معانٍ تتناقض جوهريًا مع ما سيجده القارئ من اعترافات في متن الحكاية.
مصطلح "العشر الأواخر" مصطلح ديني يحيل على معنى ذروة التعبّد والإخلاص لله، كما ترتبط "الأربعون" بسن الحكمة والنبوة والوحي، وهي معانٍ تتناقض جوهريًا مع ما سيجده القارئ من اعترافات في متن الحكاية
سيجعلنا العنوان بمستوياته المختلفة شكلًا ومعنى وإيحاء ننسى مؤقتًا عبارة "رواية" التي كتبت بخط أقل بروزًا قرب اسم دار النشر واسم الكاتب (شكري المبخوت) المكتوب في الأعلى، لا سيما أنّ النص ينطلق على لسان نور دون وساطة "وأنا أيضا أشبه تلك الراقصة"، ولن يظهر المبخوت إلا في هامشين: الأول في الصفحة 48 يشير فيه إلى أنّ هذا الموضع من اليوميات استعملت فيه "السيدة نور" الفرنسية، وأنّ جلّ محادثات الفيسبوك المنقولة بالفصحى كانت في أصل المخطوطة بالفرنسية. والهامش الثاني في الصفحة 145 يعطي فيه معلومات إضافية من "ويكيبيديا" عن مسلسل "دامر" الذي قالت نور إنها بصدد مشاهدته على منصّة نتفليكس. وسيظهر الكاتب مجدّدا في آخر الأثر، بعد اكتمال "يوميات نور" في نص ختامي بعنوان "إشارة إلى القارئ"، ينقلنا فيه إلى المستوى الثاني، مستوى "حكاية الحكاية"، وكما هو واضح فإنّ الهامشين مفتعلان ولا وظيفة لهما إلا استحضار اسم المؤلف الأصلي وبيان المسافة التي تفصله عن متن الحكاية الأم، إذ يبدو ناقلًا ومترجمًا ومدققًا لا غير. وسيؤكد لاحقًا في النص الأخير أنّه لم يختلق أحداث النص وينفي عن نفسه "التخييل الروائي" لينسب الأمر برمته إلى كاتبة مجهولة سلمته المخطوط واختفت.
الحكايةُ مجرّدةً من إطارها الخارجي تنتمي إلى الروايات "المخملية" التي لا يختلف أبطالها كثيرًا عن أبطال وبطلات إحسان عبد القدوس، حيث يكشف البوح دائمًا عن صراع أبدي يضطرم في أعماق الذات بين الروح والجسد. لكن نور وهي تعيش "حيرتها الوجودية" في دبي وسط أجواء باذخة ومرفهة ترقى فيها بفضل الاهتمام الذي تحظى به إلى مستوى ملكي تروي بتجرّد كلّ العلاقات الجنسية التي عاشتها وتحاول من خلال سردها لتفاصيل حياتها الأكثر حميمية أن تقدّم مبرّرات لسلوكها المتحرّر من أيّ التزام، بشكل يجعلك تفكر في أنّها وهي من منظور اجتماعي محافظ تعتبر "امرأة بلا شرف"، ضحية جملة من العوامل أهمها تجربة الاغتصاب التي تعرّضت لها وهي تلميذة في الثانوي، وتسلّط والدتها العنيف وتجربة زواجها الفاشلة.
يمثل نص المبخوت من ناحية "الصنعة السردية" تجربة جديدة تقوم على المزج البارع بين الأجناس
ومن المؤكد أنّ هذه الحكاية لن تكون لها أيّة قيمة أدبية إلا في حالة واحدة: أن تكون يوميات حقيقية أو مختلقة لكاتبة معروفة على النحو الذي قامت به الكاتبة الفرنسية كاترين مييه، عندما نشرت مذكراتها بعنوان "الحياة الجنسية لكاترين م"، لا سيما أنّ الوسط الأدبي المحلي يشهد إقبالًا كبيرًا على نوع الروايات "الفضائحية" التي يواجهها الوسط الأدبي بكثير من الانفعال والتزمت، روايات فاتن الفازع نموذجًا. من ثم كان الانتقال إلى المستوى الثاني "حكاية الحكاية" بمثابة خشبة الإنقاذ التي ستدخل الحكاية في بعد آخر من أبعاد الكتابة الأدبية.
يحاول المبخوت في النص الأخير أن يقنعنا بأنّ نور شخصية حقيقية سلمته مخطوط يومياتها، مع التأكيد على وعيه التام بأنّ هذه التقنية أصبحت تقليدية جدًا في عالم السرد، وحواره مع الناشر حول هذه النقطة يغذي صدقية "حكاية الحكاية"، ويدفع القارئ دفعًا إلى تصديق هذه المزاعم. لكن أيّة قيمة لهذه الحكاية الإطار؟ أكان المبخوت واعيًا بأنّ قصة نور لا يمكن أن تكون لها أيّ قيمة أدبية لو قدمها بوصفها رواية أخرى من رواياته هو؟! وفي النهاية، أليست هذه اليوميات رواية أخرى تحمل اسمه رغم التمويه والتخفّي والتبرؤ من البساطة والسطحية اللتين اتسم بهما وعي نور بذاتها؟
إذا لم تكن نور شخصًا معروفًا على غرار كاترين مييه، فأيّ قيمة ليومياتها واعترافاتها وأيّ فائدة يجنيها القارئ من تتبع مسار حياتها واكتشاف تجاربها الجنسية والعاطفية المختلفة؟ لا يخلو الأمر من تفسيرين يصعب التصديق بأنّ المبخوت يتبناهما، فالروايات المخملية "السهلة" الخالية من أي "تعقيد أدبي"، والمتحرّرة والتي تتخذ الجنس محورًا لها تحظى بشعبية كبيرة، وقد يرغب الكاتب المكرّس في أن يمارسها، وعليه أن يداري الحرج، ويجد له مخرجًا بطريقة ما. أو أن تكون هذه الحكاية مثل الروايات "التلفزية" الحافلة بالمواعظ الأخلاقية والقيم الاجتماعية، تظهر الانعكاسات السلبية للتربية العائلية الصارمة والاغتصاب، والزواج غير المتكافئ الخ.
تفرض تجربة المبخوت السردية الجديدة على القارئ أن يوليها اهتمامًا خاصًا
لكن نص المبخوت يمثل من ناحية "الصنعة السردية" تجربة جديدة تقوم على المزج البارع بين الأجناس، فلئن كان السائد المزج بين التخييل الروائي والسرد السير ذاتي في مستوى المضمون الحكائي، فإنّ شكري المبخوت في "يوميات نور" يقدّم نصًا مزدوجًا ينفصل فيه الجنسان بوضوح، من ثم ميّزنا بين "الحكاية" و"حكاية الحكاية"، فالعمل "رواية" تتضمن "يوميات"، لكن نفي المبخوت عن نفسه وظيفة الروائي أمر يتعارض مع عبارة "رواية"، إذ تمثل تعاقدًا صريحًا مع القارئ، وهو هنا يخل بهذا التعاقد ويفسح المجال لكاتب آخر يرى هو أنّه بارع في السرد ويستحق أن يقدّم للقراء، أما النص الأخير في الكتاب، والذي يكشف فيه الكاتب معلومات يرى أنّ القارئ في حاجة إليها لا يمثل "تعاقدا" بقدر ما يمثل تبريرًا لهذا الإخلال بالعقد يسهل على القارئ اجتراح الخيبة، ويساعد الكاتب على التخلّص من عبء الاعتراف بأبوة النص..
لعبة سردية جيدة، لكن هل هي مقنعة؟ ذلك هو السؤال، ولقد صادفت من القرّاء من صدق فعلا حكاية المخطوط الذي تسلمه المبخوت في مطار دبي، رغم أنّ المسألة تبدو غير مطروحة للسؤال البتة. فما حاجة الكاتب إلى أن يصدق القراء أكاذيبه؟