كيف نقضي على العنصرية والتمييز في بلداننا أولا؟
رضوان حبيش
أتذكر اليوم جيداً، زيارتي الأولى وأنا في سنّ الست سنوات إلى منزل جدتي أم والدتي في منطقة ريدة التابعة لمحافظة عمران، والتي كانت تُعرف بتواجد اليهود اليمنيين فيها. وبينما كنت أنظر من نافذة السيارة عند دخولنا الحي الذي يؤدي إلى منزل جدتي الرائعة، وقع نظري على أطفال يلعبون ويركضون وراء الكرة بكلّ عفوية وحب. شدّ انتباهي يومها، وجود بعض خصلات شعرهم المجدول والمتدلي على خدودهم المزروعة بالابتسامة والضحكات المتقطعة عند سقوط أيّ طفل أثناء اللعب.
بشكل لا شعوري، وضعت أناملي على شعر رأسي كي أتحسّس تلك الخصلات لكنني لم أجدها. وأثناء تفكيري رأيت شيخاً كبيراً يجلس أمام باب منزله، يرتشف فنجاناً من القهوة في كأس من الفخار أو ما يسمّى (الحيسي) باللهجة اليمنية، وله نفس الشعر المجدول أو ما يسمّى بالزنانير.
كان الصباح باكراً عند بزوغ الشمس، وهي لحظات لا يشعر بقيمتها إلا من ارتشف القهوة وأيّ قهوة ؟! قهوة البن اليمني، لذّة للشاربين، تذهب معها بعيداً دون أي موعد مسبق، وأنا الذي كنت أحتسيها مع جدي رحمة الله عليه، كلّما أتيحت لي فرصة الجلوس معه، وكم يحن الفؤاد لتلك اللحظات؟!
كنت أتطلع شوقا لرؤية جدتي لأنها الوحيدة التي ستخبرني بعفوية، وبعيداً عن الغموض عن كلّ ما يدور في عقلي الصغير.
ما إن وصلنا إلى حوش منزلها حتى ارتميت في حضنها الذي كان يتسع للجميع، وبكلّ لهفة أخبرتها بما رأيت وهي تبتسم وتصغي لكلّ ما أقوله، ثم أجابت عن كلّ تساؤلاتي بكلّ حب.
طفت على السطح كلّ القبائح والنعرات الطائفية والمناطقية والعنصرية بكلّ أنواعها المختلفة
حينها عرفت أنّ هناك أسرا كثيرة من الأقلية اليهودية يقطنون في ريدة. أشكالهم ولبسهم مثلنا، فقط تميّزهم تلك الزنانير على خدودهم. صباح اليوم التالي ذهبت إلى نفس المكان الذي كان يلعب فيه الأطفال، لتبدأ مرحلة الاستكشاف والفضول وصداقة جميلة يسودها الحب وبراءة الطفولة.
حديثي أعلاه عن قصة حدثت لي، هي إسقاط لما نعيشه حاليا في مجتمعنا اليمني أو العربي بشكل عام من تمييز وعنصرية باسم الدين والعادات والتقاليد الاجتماعية والتعايش الهش داخل المجتمعات، هذه العنصرية التي تعمل على تجريف كلّ شيء كان جميلاً ويسوده الحب والتعايش الكريم.
أصبح الوضع المرير الآن لا يُطاق، وخصوصاً بعد الحرب التي ساعدتها ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث طفت على السطح كلّ القبائح والنعرات الطائفية والمناطقية والعنصرية بكلّ أنواعها المختلفة. وعلى سبيل المثال لا الحصر: نجد في المجتمع اليمني اليوم، وبسبب من الحرب الطبقية والعنصرية، من ينسبون أنفسهم إلى رسولنا الكريم، محمد صلّى الله عليه وسلم، تحت مسمّى السادة الأشراف، معتبرين أنهم الفئة التي لها الحق في الحكم والسلطة والنظرة الدونية لبقية فئات المجتمع.
ولي قصة حب واقعية، تخلّلها ظلم وتمييز واضحان، فعندما يقع القلب في الحب لا يهمه اللون والعرق والشكل وغيره، وهذا ما حدث معي عندما أحببت في مرحلة دراستي الإعدادية إحدى زميلاتي من أسر "السادة الأشراف". عرفت حينها، أنهم لا يزوّجون أحداً من أبناء القبائل، وأنا ابن إحدى تلك القبائل المعروفة، رغم أنني لا أطيق ولا أتحمّل أيّ تمييز، منطلقاً من كلام الله تعالى (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). فكيف لنا أن ننتقص من إنسان كائن من كان ميّزه الله بالعقل؟
سمّوا الناس بما يحبون وليس بما يكرهون ولنعمل دائماً على ترميم النسيج الاجتماعي
صور التمييز والعنصرية في بلداننا العربية كثيرة، بقصد أو بدون قصد، منها مثلاً، مصطلح الأخدام، وهو مصطلح يتم تداوله بشكل واسع في المجتمع اليمني على فئة من اليمنيين، كما أصبحنا نسمع في الآونة الأخيرة من بعض الزملاء أو الناشطين استخدام مصطلح المهمشين، لكن تناسوا أنّ لنا دورا في تهميشهم. وكم من صور ووقائع مؤلمة كنت أراها في الأحياء الفقيرة والبسيطة في العاصمة صنعاء، حيث تنعدم أدنى مقومات الحياة. وهذا كان قبل الحرب، أما بعدها، فحدّث ولا حرج. فمن النادر جدا أن ترى من يأتي ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، هم منبوذون، لا لشيء إلا للون بشرتهم وطريقة حياتهم البسيطة.
هذا غيض من فيض، وما خفي كان أعظم في مجتمعنا اليمني والعربي بشكل عام.
سمّوا الناس بما يحبون وليس بما يكرهون، ولنعمل دائماً على ترميم النسيج الاجتماعي، إذ يكفي أن يتخيّل أحدنا أن يناديه شخص ما بلقب أو صفة لا يحبها حتى يحسّ بالآخرين. لذا علينا الوقوف ضد أي انسان يسهّل نار التمييز والعنصرية.