لا عزاء لمَنْ لا يفهمُ العربيَّة
إذا مرَّ في خاطرك يومًا أن تنظر أيّ المواضيع أشدّ وطأة في حيّز الجدلية والمضاربة الفكرية؛ فاتَّجه بفكرك نحو العربيَّة المغيَّبة الحاضرة، ومنعطفاتها التي يصيبها التساؤل أكثر مما يصيبها الجواب. والغريب في أنّ هذا المشهد اللغوي كامن في ازدواجية المعايير التي تسوِّق لواقع لغوي على حساب واقع لغوي آخر، ولا شكّ أنَّ ذلك لن يكون إلا بانصهار الآخر، وهذا يُؤّول في الأحايين كلّها إلى اللاعدالة اللغوية.
ولا يَدّعِي هذا المقال وغيره القدرة على إحداث التغيير؛ بل إنَّ الجهود الفردية هي بمثابة مناورات ثقافية، تأمل خيرًا في الجهود المؤسساتيَّة المُؤَهلَة، وهي بدورها تتبنّى الجهود الفردية مجتمِعَة، كي يتحقّق كمال المشهد اللغوي وحيثيَّاته انطلاقا من خطة ممنهجة وفقًا للخصائص اللغوية والمعطيَّات المطروحة في السلك اللغوي. ولا نقول هذا بصرف النظر عن الواقع الذي تعيشه اللغة، بل إنَّ هناك العديد من الجهود المبذولة منذ مدَّة طويلة وما زالت، التي تبحث في هذه المسألة أملًا في معالجة المواضيع اللغوية الشائكة.
وبالرغم من استمرارية الجهود في هذا السياق، إلَّا أنّنا نعتقد أنَّ هناك معضلة أساسيّة لها دور بارز في توقّف البحث في عدد من المسائل الشائكة، وهو أنَّ الباحثين في الشأن اللغوي يُخيَّل إليهم أنَّ القضايا التي حُسِمَ فيها القول من قِبَل مَنْ سبقهم لم تعد تستوعب البحث فيها بشكل آخر؛ فلا يعاودون البحث فيها إيمانًا منهم أنَّها نالت حقَّها في البحث، ولا بدّ أنْ ننتقل للبحث في قضايا أخرى دون النظر إلى سابقتها، هذا من وجهة نظر البعض، وبذلك تصبح تلك المسائل ميتة بحثيًّا.
علاوة على ذلك؛ أصبح البذخ النظري والنتاج الفكري مكدّسين في الكتب دون مراجعة ذلك على أرض الواقع، أو حتى النظر في تطبيق صاحب النتاج الفكري لما أنتجه من معرفة؛ إذ إنَّ الخيار الحضاري يفرض بسطوته على الجميع، ليتهافتوا نحو صناعة المادة دون النظر إلى جدوى الدراسة وظلال التأثير، بعيداً عن الاعتبارات المرجعية التي يستند إليها الباحث في صولاته وجولاته الفكريَّة النظريَّة والتطبيقيَّة، ولا شكَّ أنَّ هذا الفيض الغزير من المادة العلميَّة لن يبلغ مبلغه ولن يحقّق مرتعه، إلا في حال كان الباحث واثقًا من علمه بالشيء، ساعيًا نحو الهدف بغية الوصول المستَحق إلى نتائج منطقية حقيقية. فجَهْلك بالشَّيء؛ يُشوِّش رُؤيتك، ويُشوِّه فكرتك، ويُعطِّل قُدرتك. بالمقابل، فَهْمك للشّيء؛ يُسهِّل مَسْعاك، ويُوقِظ جسارتك.
لم تكُن مشكلتنا يومًا مع لُغةِ غيرنا، إنّما مشكلتنا الأساسيّة أننا وضعنا لغتنا الأُم موضع مفاضلة مع لغة أجنبية، وقدّمنا للأجنبيةِ اهتمامًا وأولوية
إنَّ دعوتنا المستمرة إلى الاهتمام بالعربيَّة والنهوض بها، وإنْ كان مجتمع المعرفة يدفعك دومًا نحو التخلّي عنها لاعتبارات مختلفة (لسنا هنا بصدد الحديث عنها)، هي دعوة نابعة من القناعة بأنَّ النهوض بالعربيَّة هو طموح نبيل، كما أنَّ الانخراط في مجتمع المعرفة وحيثياته طموح نبيل أيضًا. لم تكُن مشكلتنا يومًا مع لُغةِ غيرنا، إنّما مشكلتنا الأساسيّة أننا وضعنا لغتنا الأُم موضع مفاضلة مع لغة أجنبية، وقدّمنا للأجنبيةِ اهتمامًا وأولوية. أقرب مثال؛ اللغة الإنكليزية التي استندتْ عليها معظم شروط الوظائف، وقوائم الأطعمة، واللوحات الإرشادية، ونشرات الأدوية الطبية. غيرُ مَأسوفٍ عَلى مَن يُهينُ لغتَه ويُقدّمُ عليْها لغةَ غيرِه؛ ومَن يَفعَلْ ذلكَ يَكنْ في عداد مُهينِ الذّاتِ المُسيءِ إليها؛ فكلّ أمّة آثَرَت لغةَ مُستعمِرِها تابعةٌ لا مستقلّة، بل حُقَّ للمُستعمِرِ أن يُطالبَها بنصيبِه من موارد استعمال لغته لأنَّها استثمَرَتْ في لغتِه.
عزيزي/تي الباحث/ة
من تمام اعتزازك بهويتك أن تحرص على استعمال اللغة العربية، على الأقل في ما يتعلّق بدراستك من مراسلات مع مؤسستك أو أساتذتك، هل باتت الدعوة للنهوض بالعربيَّة تتطلّب منا الكثير من العناء وتستوجب العديد من المسوِّغات والدلائل والبراهين لإثبات المُثبَت، ولإقناع الجيل بعد الجيل؟ هل باتت العربيَّة نداء يُخجِلُنا؟! هل استبدلنا لغتنا بلغات أخرى في سبيل الانغماس في مجتمع المعرفة الحالي؟!