لبنان... طرق مختلفة للموت
تقول المعالجة النفسية: "نحن لا نعلم سوى هذه الطريقة من التفكير، ومع الوقت تأثير الأفكار تخفّ وطأته". لكن، كيف تخفّف وطأة حدوث زلزال وأنت على الهاتف مع والدتك؟ هي في لبنان وأنت في فرنسا. تسمع صراخها وخوفها، لا تعلم ماذا تفعل... ثم فجأة ينقطع الاتصال.
في تلك اللحظة، يسيطر سيناريو الموت على أفكارك. هل هذه آخر مرة تسمع فيها صوت والدتك؟ هل سوف تراها مرة أخرى؟ هل ستعثر على جثتها؟
تتصل مرّة ومرّة أخرى... ها هي تقول لك "نحن بخير". نحن نعلم أنهم ليسوا بخير، كما نحن لسنا بخير.
في لبنان، نتعايش مع الأزمات والمصائب بطريقة غريبة جداً. يقولون نحن شعب "الصمود"، "الأرزة الشامخة" و"سويسرا الشرق سترجع"... أقول، نحن أناس ما زلنا على قيد الحياة بالصدفة، صدفة فقط لا غير. نحن شعب كئيب، يرقص على أحزانه ووجعه، نحن لم نعد نحلم إلا بالهروب من بلدنا الذي نحبه ونكرهه في آن، بلدنا الذي تجمعنا به علاقة سامة، علاقة نضحي بالكثير في سبيلها لتستمر، ولكنك على يقين أنها ستفشل.
إذاً، نحن في لبنان أمام صدفة العيش والاحتيال على الموت، إذ دخل البلد في أزمة اقتصادية، ثم جاء انفجار المرفأ، حيث ندين بحياتنا لأهراءات القمح، فلولاها لكانت بيروت رماداً وأشلاءً، ولربما كنّا أيضاً صوراً معلّقة على إذاعات التلفزة وغباراً منثوراً على حافة الشوارع، كنّا أصبحنا شهداء. شهداء ماذا؟ ولماذا؟ لا أحد يعلم، ولا أحد سيعلم، فنحن والحقيقة أعداء.
نحن في لبنان شعب كئيب، يرقص على أحزانه ووجعه، لم نعد نحلم إلا بالهروب من بلدنا الذي نحبه ونكرهه في آن
هذا الحدث كان له صدمة كبيرة علينا كلّنا في لبنان، حيث أصبحنا نرتعب من أي باب يُغلَق ويصدر ضجة كبيرة، أصبحنا نخاف من أصوات صفارات الإسعاف. هنا بدأت رحلتنا مع "التروما"، فهذا الانفجار كان كفيلاً بأن يذكّرنا بأنّنا نعيش في بلاد، حيث الحياة فيها لا تعني أي شيء.
هنا، ومع تعمّق الأزمة الاقتصادية، أخذ الموت يلعب بنا بطرق عديدة، سواء كان الموت برصاص متفجّر من غضب الناس وحالتهم النفسية والمادية الصعبة، أو عن طريق حوادث السيارات بسبب نقص الأموال لتأهيل الطرقات، أو الموت من مرض السرطان لعدم تأمين سعر الدواء... أو الموت على أبواب المستشفيات لعدم توفر المال... وبينما نحن نصارع الحياة ومعاركنا الوجودية اليومية داخل البلد، تصل الزلازل لتقضي على ما تبقى من أعصاب أرواحنا المنهارة.
تقول أمي "لم نمت في 4 آب (انفجار مرفأ بيروت)، ولم نمت في الزلازل التي حصلت، ها نحن جالسون ننتظر طريقة موت جديدة".
نحن لسنا شعباً "صامداً" ولا "أرزة شامخة"، نحن لم ولن نعد "سويسرا الشرق"، نحن بكلّ بساطة شعب يعيش من قلّة الموت، شعب تعب من المكافحة والصمود واستسلم لواقعه المرير. نضحك على مصائبنا ونبكي قهراً. نحن مشردون بكلّ أنحاء العالم، لا توجد عائلة واحدة في لبنان ليس لها أحد من أفرادها في الخارج، نحن هنا نراقب أهلنا يشيخون عن بعد، يتآكلنا الحزن ويكبر فينا الجرح.
سنرجع يوماً ما، سنجتمع بعائلاتنا وأصدقائنا، سنرقص، نغني ونفرح... يوماً ما، سنرجع.