لماذا لا يسرق اليمنيون الأغاني؟
يكتفي اليمنيون في مناسباتهم بأغانيهم؛ فثراء اللون الغنائي اليمني لا يفسح مجالاً للبحث عن سواه، بل إنّنا لو اكتفينا بأغنية واحدة فقط من كلّ لون يمني لما كفتنا سهرة غنائية واحدة، ويعود هذا الثراء إلى التنوّع الجغرافي والمناخي والثقافي في اليمن. فإذا زرت حضرموت مثلاً، لوجدت "الدان" ملك الموسيقى (يا سمار ما يحلى السهر إلا بلون صوت الدان يا سمار)، ولا تكتمل مناسبة، في جنوب اليمن وشماله، إلا بالرقص اللحجي ببهجة الفنان، فيصل علوي، وهو يغني "يا ورد ياكاذي" و"يا وليد يانينو"، وكيف يحلو عرس عدني بدون رقصة الشرح التي تشكل عالماً روحياً بأكمله؟
أينما حلّ الفنان اليمني يجد من يحاول سلخه من جنسيته اليمنية، لكنه يأبى، فالفنان أحمد فتحي كأشهر عازف عود يجوب البلدان شاهراً يمنيته، وكذلك الفنان، أبو بكر سالم، فنان السفر والحضر، الذي تربّع على عرش الطرب العربي لعقود مضت وعقود ستأتي، حيث شكّل مع الشاعر، حسين أبو بكر المحضار، ثنائية خرافية، جاب بها الدنيا، فتغنّت بأغانيه دول بأكملها، بينما كان (أحياناً) يردّد كلمات يمنية لا يفهمها إلا أبناء بلده، فغنّى:
باشل حبك معي بالقيه زادي
ومرافقي في السفر
وباتلذذ بذكرك في فؤادي
في مقيلي والسمر
ثم بغمزة فنية قال "بانلتقي في سعاد"، وسعاد هو لقب يطلق على مدينة الشحر الحضرمية في اليمن.
لم يسبق أن سرق فنان يمني أغنية، لحناً أو قصيدة، فالبحر لا يحتاج لرشفة من زمزمية، واليمن ثري بلهجات لا يتمكن من حصرها اليمنيون أنفسهم، وكلّ منطقة لها ألوانها الغنائية المختلفة (أغان، مهاجل، أناشيد، زوامل، أهازيج، دودحية، التواشيح... إلخ)، حتى أنّ الموّشحات الأندلسية يعود أصلها للشعر الحميني اليمني الذي يجمع بين اللهجة الفصحى والعامية معاً، بتمازج وتزاوج سلس وبديع، مكوّناً لوناً شعرياً غنائياً متفرّداً، ولا خلاف على تميّز الفنانين اليمنيين بموهبتهم الفطرية، فأغنية "يا ليالي" جابت الوطن العربي ليكتشفوا الفنان، صلاح الأخفش، الذي أطلقها من مدينة صنعاء الواقعة تحت القصف لسنوات، ثم تحقّق أغنية "قالت حبيبي" للفنان الشاب، أيمن قصيلة، ترينداً عربياً واسعاً، وهو الشاب الذي يدعم نفسه بنفسه في عصر اللادولة اليمنية، فذوقهم أصيل الفخامة، سواء من اعتزّ بيمنيته أو من انسلخ عنها (وهذا شأنه)، لكن ما ميّزهم هو الأصل اليمني الفريد.
لأنّ اليمني معروف بصوفيته وتديّنه، فقد انعكس هذا حتى على أغانيه
ليس هذا فقط، فاليمنيات منذ القدم يتسلين في جلساتهن وسهراتهن بالمساجلات الشعرية، ويقمن بتلحينها وغنائها ويصير لكلّ مجموعة أغانٍ بسيطة خاصة بها لجلساتها الخاصة، ومثال على هذا الفن ما قدمته الفنانة، فريحة اليمنية، التي اعتلت دار الأوبرا المصرية في مارس/ آذار 2022، وخلفها جوقة موسيقية كاملة تستمع إليها بصمت ودهشة، وقد تخلّت فنانتنا عن عزفهم، مكتفية بصحن معدني في يدها، عزفت عليه بأناملها فقط، فأبدعت وأبهجت القاعة بتلك البساطة التي ما زالت النساء في اليمن يتمتعن ويتسلين بها في جلساتهن الخاصة حتى اليوم.
لا عجب بعد هذا أن نؤكد أنّ اليمن منبع الغناء العربي، وكما ذكر الدكتور فارس البيل، في مقالته "الغناء العربي... هل نشأ في اليمن؟": "أول من غنى من العرب قبل الإسلام كانتا جرادتي بني عاد وتسميان تعاد وتماد، قدمتا من عاد اليمنية، وكذلك قينتا الحضرمي سيرين وصاحبتها، كما أن أول من غنى في الإسلام في المدينة كان طويس وقد اشتهر بالغناء وصناعة الطرب، فذاع صيته واشتهر وهو يمني، وقيل إنه أبو الغناء في الإسلام. وهو أول من أدخل الإيقاع إلى الغناء العربي حتى تحول الغناء إلى فن متقن في عهد الخليفة عثمان بن عفان".
ولأنّ اليمني معروف بصوفيته وتديّنه، فقد انعكس هذا حتى على أغانيه، كأغنية "قالوا لي اقنع" للفنان اليمني، عبدالرحمن الأخفش، من كلمات الشاعر، عباس الديلمي، التي سأختم مقالتي هذه بها ليستمتع بها القارئ:
إن زرت سبحنا وقمنا وقوف
وإن غبت صلينا صلاة الكسوف
هذا جمالك لف عقلي لفوف
من يوم ما شاورت له يتبعك
قالوا لي اقنع قلت مالي قنوع
وأنا بغاني في دلالك ولوع
لو ذبت لأجلك مثل ذوب الشموع
يا غايتي في الناس ما أودعك.