لن أخضع لشيطان نيتشه
ليست الأسئلة فقط تفتح الأبواب للتفكير، إنّما الإجابات أيضاً. يفتح السؤال باباً أمام الإجابة، وكلّ إجابة بدورها تفتح أبواباً لعشرات الأسئلة. كم كنت فضولياً في صغري وشكاكاً، فلم أكن أكتفي بالإجابات الاعتيادية، تلك الإجابات التقليدية المتوارثة، التي نتداورها عادة في العائلة، ثم في الحي، ثم في البلدة، فالمدينة فالمجتمع ككل. حينها كان لديّ عطش لمعرفة الحقيقة. أما الآن فلم يعد لديّ هذا الشغف لفهم الوجود، ولم أعد أبحث عن أسباب وجودي في هذا الوجود. ليس لأني ارتويت من ظمأ المعرفة، ولا لأني عرفت ما كنت أجهل. الشيء الوحيد الذي لم أعد أجهله، أنّ الحقيقة الوحيدة التي أعلمها علم اليقين هي أنني موجود. وحتى وإن كان وجودي حقيقة، فهي حقيقة نسبية آنية وليست ثابتة. غداً، أصير إلى العدم ويصبح وجودي وهماً لا حقيقة. ما نؤمن به على أنه حقائق ليس سوى معانٍ نسبية. لكلّ إنسان معنى يخصّه وحده فيسميه حقيقة. قد يحدث أن يكتفي البعض بالمعنى الذي تتداوله الجماعة. وهذا لا يجعل من المعنى السائد حقيقة، إنما هو معنى سائد، لأنّ بعض أفراد الجماعة تخلّوا عن حقهم في الوصول إلى معانيهم الخاصة، واعتنقوا هذا المعنى على أنّه حقيقة. وقد يحدث أنّ جداً أورث أحفاده معناه الذي يؤمن به، وأحفاده أورثوا هذا المعنى بالتالي لأحفادهم حتى أصبح إيماناً لدى أفراد الجماعة على أنّه حقيقة وليس معنىً يخصّ جدهم وحده، فيتمسكون بذلك المعنى، ليس فقط لإيمانهم بأنّه حقيقة، إنما أيضاً لأنه يربط بعضهم ببعض. لقد أصبح هذا المعنى هويتهم الوجودية الآن. وقد يحدث أيضاً أن تملي السلطة معانيها على الرعية التي تأخذ بتلك المعاني على أنها حقائق مطلقة.
أنا اليوم لم أعد أبحث عن الحقائق التي لم أصل إلى أيّ منها بعد، وقد لا أصل أبداً. لم تعد المعاني تثير فضولي كما كانت تفعل في السابق. لا أحنّ إلى الأماكن التي عشت فيها يوماً، إنما أشتاق أحياناً إلى نفسي. هو ليس رغبة في العود الأبدي المقدّس إلى ما كنت يوماً، إنما الشوق إلى ما كنت أظن أنني أعرف. فلم يعد لديّ الرغبة بعد الآن في أن أتعرّف إلى جهلي أكثر. ولطالما تساءلت ماذا لو زارني شيطان نيتشه ليقول لي ستعيد حياتك هذه مرّة أخرى بكلّ تفاصيلها التي عرفتها، ستعيشها مسيّراً ولن تكون قادراً على تغيير أي شيء فيها. كم سيكون مملاً لو أنني كنت أعرف معنى ما يحدث حتى قبل أن يحدث! ماذا لو كنت سأؤمن مرّة أخرى في طفولتي الجديدة بشعار الأمة المقدس. أؤمن هذه المرّة مرغماً لأنني بتّ أعرف أنّ شعار الأمة ليس سوى ترهات من قول السلطة، ترهات تطرب لها آذان الجماعة. سأتظاهر هذه المرّة بأنني أقدّس شعار الأمة وسأردّده، لكن ليس إيماناً كما فعلت في حياتي السابقة، بل خوفاً من الجماعة التي تؤمن بهذا الشعار ومن السلطة التي تحمي، باسم الجماعة، قدسية هذا الشعار. سأقف خلف الإمام في صلاة الجماعة ندعو بطول العمر للسلطان الذي آمننا من خوف وأشبعنا من جوع. أنا أعرف في حياتي هذه أنّ الوحيد في هذا الجمع، المؤتمن على نفسه من بطش السلطة هو الإمام. سأتظاهر هذه المرة بأنني لست خائفاً، وذلك خوفاً من الجماعة والسلطة التي تحمي أمان الجماعة.
تملي السلطة معانيها على الرعية التي تأخذ بتلك المعاني على أنها حقائق مطلقة
قد يحدث فعلاً أن يزورني شيطان نيتشه ويرغمني على إعادة حياتي مرة أخرى. لن أسمح له بأن يعيد ترتيب حياتي وفقاً لقواعده. لن أترك له أن يعيد حياتي الجديدة استنساخاً عن حياتي الماضية. سأتنقل في حياتي الجديدة هذه بين لوحات عمري كي ألوّنها، فلم أعد أهوى الأبيض والأسود، ولن أعيش في ظلّهما الرمادي بعد الآن كما كنت أفعل سابقاً. سأخلق للأماكن التي أريد معاني خاصة بي حتى لا تكون قد راقتني عبثاً. فلا وجود للحيّز المكاني من دون البشر. نحن فقط من نعطي للمكان معنى كما يرى الفيلسوف الألماني غوتفريد فيلهيلم لايبنتز. وسأضفي على هذا المعنى شيئاً من روحي، شيئاً يشبهني حتى يكون خاصاً بي، لا أثراً من آثار الجماعة.