لولا فطنتي لسجلوني بصفة "حيادي"

23 ابريل 2017
+ الخط -

حدثني الصديق، أبو أسامة، عن ابن بلده أبي عبدو. وهو رجل طيب، وبسيط، ويبتعد عن السياسة قدر ما يستطيع.

 في يوم من الأيام، حضر عنصر من المخابرات لاستجوابه. وقد طمأنه العنصر إلى أن هذا الاستجواب بسيط، ولا ينطوي على أي أمر خطير، وإنما هو تقييـم دوري. 

قال له العنصر بلهجته المخابراتية اللذيذة: "شو يا رفيق؟ أنت مو رفيق بعثي يا رفيق"؟

قال أبو عبدو بتلقائية: "لا والله". واستدرك قائلاً: "أنا لازم أكون رفيق بعثي، لازم! ولكنني، قسماً بالله نسيت.. نسيت من زمان، لما كنت بأول طلعتي على الدنيا، أن أقيِّد نفسي في الحزب. سبحان الذي لا يسهو ولا ينسى، ولما كبرت وصرت في هذا العمر فكرت فيها، ولكنني رأيت أنها ما عادت تحرز. إذا انتسبت إلى حزب البعث الآن ماذا سيقول الناس"؟

ارتاب العنصر وسأله: "شو بدهن يقولوا يا رفيق"؟ 

قال أبو عبدو: "سيقولون: ما به أبو عبدو؟ ليش بهذا العمر صار بعثي؟ هل يريد أن يبحث عن مكاسب؟ وجنابك تعرف كلام الناس الفارغ، واللت والعجن والحكي الفاضي".

قال العنصر: "طيب يا رفيق. لكن قل لي، أنت رفيق شيوعي يا رفيق"؟

قال أبو العبد: "أنا؟ لا.. علي الطلاق بالثلاثة ماني شيوعي، ولا بحياتي مشيت مع شوعيي، أو فكرت أن أكون شوعيي".

قال العنصر: "ها.. أنا هلق فهمت. يعني أنت ناصري.. مو هيكه يا رفيق"؟

قال: "لا بشرفي، مع أني شفت عبد الناصر لما مر من هنا، من زمان، مثلما أنا شايفك في هذه اللحظة. الناس يومها كادوا يعجقوا على بعضهم مثل النفرة أيام الحج، لكي يصلوا إليه ويصافحوه.. مجانين بعيد من قبالي.. لأن عبد الناصر، وأنا شفته بعيني، رجل مثلي مثلك.. فلماذا التدفيش والتعجيق"؟

قال العنصر: "أي يا رفيق.. على ذكر النفرة والحج، أنت إخوانجي شي"؟

نط أبو العبد وما حط، وقال: "أنا؟ لا بأولادي التسعة، ماني إخوانجي، ولا بعرف كيف يكون الواحد إخوانجي.. (وضحك ضحكة موجزة وقال) صحيح أنا أصوم وأصلي، ولكنني في بعض الأحيان أفطر في رمضان، وكثير من أوقات الصلاة أنساها.. المشكلة بذاكرتي يا أستاذ.. تصدق؟ أنا في أكثر الأحيان أنسى أن أتشاهد".

قال العنصر: "طيب طيب. إذا كانت الأمور هكذا فأنا رايح أسجلك حيادي".

نط أبو العبد كالملسوع وقال: "حيادي؟! لحظة.. إذا سمحت، وكرمى لخاطري، وأنا من جيل والدك، لا تسجلني حيادي".

قال العنصر، وقد أيقن أن الحوار مع أبي العبد غير مجد: "طيب. طيب. اترك لي القصة، وأنا بتصرف".

وأغلق دفتر الاستجواب ومشى.

بعد الاستجواب، التقى أبو عبدو بصديقه أبي أسامة، وقال له بلهجة سرية: "هذا العنصر، لولا فطنتي ودهائي كان سيجعلني أروح "فَتّة". تصور، كان بوده يسجلني حيادي".

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...