لو كان اليأس رَجُلاً.. لَهزمني أيضاً
الحرفُ كما اللحن يفضَحُ عازفَه.. فيلعنُه ويلعن عقوقَه أو يشهدُ له نابغاً.
والأديب النابغ لا يُعدّ بعدد كتبه ومؤلفاته وقرائه ولا بعدد أصحابه وشهادة محبيه، بل بعدد حسناته إلى حروفه، وأثرها بما ينفع الناس، فإن أحسن إليها أحسنوا، فذلك ما يُدنيه ويُعليه! وإن أساء إليها فهي تفضحه وتلعنه وتُخزيه.. ثم الناسُ من بعد غَشْيٍ يجلو.. ستهجره وتقليه!
والنصوصُ كلماتٌ هامدةٌ لا روحَ فيها، تظلُّ مهما تفنّن صاحبُها في نظمها ورصفها مجرد غُصنٍ مقطوعٍ آخرَ، وإنْ حرّكته الريحُ وتمايل معها فلا حياة فيه.. مصيرها السقوط آجلاً أو عاجلاً. أما تلك التي تقتات من قلب صاحبها ومن هموم زمانه فتصل بين قلبه وناسه فتنغمس في تربته كبذرةٍ سُرعان ما تهتزّ وتنتفض وتمدّ من كلماته عروقاً وتمتص من صدقه ومواقفه ماءَ الحياة دفقاً فإذا هي آجلاً أم عاجلاً شجرةُ الخُلْدِ لِكاتبٍ لا يَبْلى، ولنا الظِلال والثمار!
هذا ما استخلصتُه صغيراً من الشابي شاعر الخضراء يلطم قلبَه الألمُ والأملُ ويحمل وهو في مقتبل العمر آمالَ شعبٍ كسير وآلام قلبٍ عليل لم يمهله ففقدناه ولم يتجاوز الرابع والعشرين بعد.. وكم أراد الحياةَ ولعَنَ الحُفر، وكم استثار شعبَه وراود القدر!
ولكم وددتُ لو أنّ الله أمدّ في أنفاسه أو أنفاس هاشم الرفاعي كي يُلبسا ذلك الاتقادَ وتلك الحماسة من خبرة الحياة ونضج السنين والتجارب.. طبعاً "لو" هذه ليست اعتراضاً، بل على سبيل التمني تماماً، كما كنت أتمنى لو لبث أبو فراس في سجنه أكثر؛ ربما لطغت رومياته على كل شعره.
هكذا باتت تعمل بوصلتي لتشدني حياة الأديب لكلماته، وهكذا وجدتني أعظّم زهدَ تولستوي، وعقلَ فولتير، وجنونَ نيتشه، وعشق قيس، وسيرة العِزّ، وحزن المنفلوطي، وعبقرية العقاد، وحجة الرافعي، وثبات شريعتي، وشهادة قطب.. على ما تحمله نصوصهم من تباينات وتناقضات، وإنْ لم ترتقِ بعضها إلى جمال البيان نفسه الذي تتسم به بعض النصوص الأخرى إلا أني رأيتها جميعاً تستمد جمالها من صدقها لا من بريق ألفاظها، وتنبثق قوتها من واقعها لا من رنينها.
قد لا يستسيغ البعضُ كلامي أو يرمونه بالمبالغة لا سيما أولئك الذين تُرهبهم الحدود أو قد تُربكهم بعض الأسماء
فالقول لغايةِ القول ثرثرة، والفِكر بلا غايةٍ ترفٌ ومَضيَعة. فكيف أسوّي بين من "امتهن" الأدب وبين من امتثله، وبين من تكسّب منه ولو تبذّلَ وهانَ وبين من ملَّكه قلباً أو أفنى فيه عُمراً أو بذل له روحاً؟
نعم قد لا يستسيغ البعضُ كلامي أو يرمونه بالمبالغة، لا سيما أولئك الذين تُرهبهم الحدود أو قد تُربكهم بعض الأسماء.. حسناً دعوا الأمرَ للكلمة، فهي ليست مجرد اسمٍ وفعل وحرف، بل إنها في الحقيقة سلطة وقوة وشرف، دعوها تعرّف الأسماءَ وتُنكّر أخرى فإنما هي لا أنا من تُكسِب الصادقين وأصحابَ الحق شرفاً، لأنهم يبذلون حياتهم في سبيلها، وتفضح الكُذّاب، وتلعن الأنذالَ الموصومين بتطويعها أو تحريفها!
ولعلك تدرك الآن لِمَ لا أصلُحُ أن أكونَ كاتباً كما يُصنّفون.. روائياً كما يشتهون.
مجرد حكاواتي يحبك فصول قصته باقتدار وينفّس عن أسرارها بإقتار.. ليُذكي شوقَ القرّاء ويمتحن ذكاءهم وصبرهم..
نعم أعترفُ غير مُكرَهٍ ولا مستبرِءٍ بأنّي لا أُحسن ذلك كله.. فقط كي أُهديَ تلك الرؤوس المتعالية عظماً يُسيل لُعابَهم ويلوكونه!
فللكتابةِ طقوسٌ نحفظُها، وللنقادِ دروسٌ نعرفها، لكني أرجو منها ما لا يرجون، وأطلب منها ما لا يجرؤون..
ثم إني أُعلِنُ دون مُوارَاةٍ أو خجلٍ أني ما اقتحمتُ عالَمَ الرواية إلا لحاجةٍ وغاية؛ أما الحاجة فهي أن جمهورها أكبر.. وأخص بالذكر منهم أولئك الذين يُلهيهم عن كُتُبِ الأفكار المللُ حيناً، وحيناً الكسل.. وإلا فهي (الأفكار أقصد) أولى بالجهد والاشتغال، وكل كاتبٍ إنما يسعى أولاً وأخيراً ليُسمع كلامه ولا يطيق أن يبقى حبيساً بين ضلوعه، أو يتقلّى بين سطورٍ مهجورة، أو دفاتر النسيان!
وأما الغاية من الرواية فألا تكون مجرد يدٍ تُربّتُ على كتف القارئ لتهدئته.. بل يداً تشدّ العالَم من أذنه لِتُرِيَه ماذا كان يفعل في الخفاء..
لكن يبدو أني فشلتُ! فشلت مرة أخرى في التكيّف كالآخرين.. في التموقع مثلهم في المناطق الآمنة، ولم يكن الانقياد يوماً في قائمة الأشياء التي أجيدها للنهاية، حتى ولو كان مجرد خضوع يسير إلى قواعد يسمونها.. شروط الكتابة أو قواعد الرواية!
فلينزل الكُتاب بما شاءوا من الأعذار إلى واقعهم، وليفخر الفاخرون بما شاءوا من الألقاب لا يبتغون بأدبهم أدباً ولا بتعرية النفاق ديناً وقد خدشوا الحياء وتتبعوا الزلات والعورات تحت غطاء المناسَبَة فطبّعوا الرذيلة حتى غمرتنا، واستكثروا عنا الفضيلة، وغضّوا من شأنها تارة بالاستهتار، وطوراً بالتسفيه، فأدرجوها كالغريبة أو المبالغة، وما هو إلا هذيان وضيع وهذر رقيع لتجميل الحضيض.. أما أنا فسأظل أحاربُ اليأسَ بالآمالِ في جلَدٍ، وأسألُ اللهَ عنِّي أن يُجافيهِ. ربما لو كان اليأس رجلاً لضربته..
ولهزمني بلا شكٍّ أيضاً!