ما علمتني إياه سنة 2023
يمكن أن نفقد من نحبّهم في أيّة لحظة. هذا أوّل الدروس التي تعلمتها في سنة 2023 التي ابتدأت بفاجعة طبيعية؛ تمثلت بالزلزال الذي أصاب تركيا وسورية، ما أدّى إلى موت 56000 شخص. وتباعاً، لحقه فيضان وزلزال آخر في المغرب، لتنهي السنة سلسلة مآسيها بأقصاها: طوفان الأقصى.
ولعلّ السنة التي مضت من أكثر السنوات إيلامًا عاطفيًا على المستوى العالمي عمومًا، والعربي خصوصًا، إذ فاقت أحداثها حقيقة الموت الراكدة في خزائننا وبين الثياب القديمة، ليصبح تجاهلها صعبًا ويجبرنا على التواجد معها يوميًا. وقد أدّى الوعي اليوميّ لهذه الحقيقة إلى إدراك إمكانية فقدان أحبتي في أيّ وقت، وعلمني ذلك جدارة إمضاء أوقات مثمرة معهم وعدم إهمال وجودهم في حياتي، ظنًّا مني أنّ الوقت ما زال أمامي.
عليّ الاستمتاع بالأمور الصغيرة في حياتي
أدّى الوعي بزوال الحياة فجأة وفقدانها إلى تساؤلي عن أوقاتي فيها، وعن السعادة وإمكانية الوصول إليها. ففي ظلّ كل القهر المتفشّي في العالم، يصعب في هذه الأيام الوصول إلى الاكتفاء الروحيّ والسلام الداخليّ، لذا ارتأيت أنّ التركيز على التمتّع بتفاصيل الحياة الصغيرة هو الأسلم لي حاليًا. ولعلّ هذه التفاصيل الصغيرة هي في الحقيقة كبيراتها! ومن أمثالها: الاستمتاع بنسمة هواء تُلاطف شعري، الانتباه إلى كلّ النكهات التي يتضمنها كوب شاي، والابتسام عند رؤية الأطفال يلعبون ويضحكون في الشارع. ويكمن سرّ الاستمتاع بهذه الأمور في التركيز على اللحظة الآنية عوضًا عن التفكير بما لا أستطيع تغييره من المستقبل أو الماضي.
لا أحد أفضل لكن بعض الناس تعلّم أكثر
عنصر مهم كان يمنعني من الاستمتاع بلحظاتي الآنية، يتمثل بظنّي أنّ كثيراً من الناس أفضل مني. غير أنّني بدأت تخطّي الأمر عندما أدركت أنّ لا إنسان أفضل من آخر، إذ من هو "أفضل" من غيره هو ببساطة يعلم أكثر. فالطبيب مثلًا يعلم أكثر منك عن جسم الإنسان والأمراض، أمّا النّجار يعلم أكثر منه بالخشب، أمّا صاحب المال فهو عليم بالوسائل التي تدرّ عليه ثرواته، وبالنسبة إلى الرياضي فهو تعلّم الإصرار والمتابعة والتفوّق على عقله الذي يأمره بالتوقف عند التعب. وبحكم ذلك، فأيّ امرئ نظنّه أفضل منّا هو فقط عالم في مجال قرّر البحث فيه بكثافة. جرّدني هذا الاعتقاد من الإحساس بالدونية وحثّني على العمل والبحث بمثابرة.
الرجوع إلى أصولي العربية أسلم من التمثّل بغرب لن أكونه
لقد أتممت دراستي المدرسية في إحدى الإرساليات الفرنسية في لبنان، وكنت أعتقد أنّ الغرب أفضل من الشرق المتخلّف بأدبه وأخلاقه وتحضّره. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي والثورة العلمية التي أنتجتها تلك البلاد ورغبة الأغلبية في الهجرة إليها في تثبيت تلك الأفكار الآثمة. غير أنّ الأحداث الأخيرة المغتصبة لإحدى أقدس أراضينا العربية المرفقة بعدم اكتراث مستمرّ من قبل بلاد الحرف اللاتيني، أثارت فيّ الاشمئزاز من الحضارة الغربية، وأعادتني للالتفات إلى أصولي العربية. فأنا اليوم أتلذّذ باستعمال لغتي، لغة الشعر والمشاعر، وبتّ أحاول التخلّص من المفردات الأجنبية التي اجتاحت كلامي اليومي. أصبحت أنظر بجمالية إلى كلّ أثر معماري تركه أجدادي بدل أن أشفق عليه لغياب ترميمه. مكّنني هذا التغيير من التصالح مع هويتي وبلدي وإخماد نار بعض الصراعات التي كانت متقدة بيني وبين مجتمعي.
الحقوق العالمية للإنسان مجرد أوهام خُطّت على ورق
لقد أخذت في الجامعة مادة تسمّى "الحقوق العالمية للإنسان". يقنعونك في هذه المادة بأنّ للإنسان حقًّا في العيش الكريم والمحترم أينما، من حيثما، وكيفما كان. غير أنّ التطورات الجارية عالميًا الآن، إن كان في فلسطين أو في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أوضحت أنّ الحقوق هذه لا تطبق على أصحاب البشرة السمراء، خصوصًا إن كانت تنتقد الرغبات الاستعمارية للدول الغربية. فعندها تمزّق ورقة الحقوق تلك وتخطّ بدلًا منها ورقة توضّح الأسباب "الموجبة" لانعدام الإنسانية، وقد سقطت مع سقوط أسطورتها، هيبة الأمم المتحدة التي أضحى وجودها مشلًا بدل أن يكون معيلًا. ولكن، بالرغم من خيبة الأمل هذه، أظهرت الشعوب العالمية دعمًا هائلًا في وجه الظلم. وقد تجلّى هذا الدعم، إمّا بالمظاهرات الشاسعة أو المقاطعات التي أدت إلى خسارات هائلة طاولت المؤسسات الداعمة للكيان الصهيوني، فهزت بذلك عرش الرأسمالية. بالتالي، بالرغم من فقدان أملي بالمنظمة العالمية لحقوق الإنسان، فقد عاد أملي في الإنسان عموماً.