مثل التبّ للتين
(تشريق وتغريب 14)
أعلمني الصديق الإدلبي، أبو أحمد، بأن الأشياء التي ننشرها في مدونة إمتاع ومؤانسة، في صحيفة "العربي الجديد"، تنال اهتماماً كبيراً حينما نتحدث عن أعمال وعادات فلاحية إدلبية، أو نسرد حكايات يعرفها أهل مناطقنا، أو يعرفون حكاياتٍ تشبهها.. وأن أكثر ما أحبوه، في الآونة الأخيرة، حديثنا عن "التب"، وهو التين المذكر الذي يُلَقَّح به التين المؤنث، وهي العملية التي تشبه "تأبير النخيل" في البلاد الصحراوية.
قلت: نعم، وقد لاحظتُ ذلك من خلال التعليقات على تدوينة (الدفع في موسم قص الكلاب) بعدما نشرتها على صفحتي، فأحدُ الأصدقاء ذكرني بالمثل الذي يستخدمه الفلاحون، فيقولون: بين التبّ والتين أربعين. بمعنى أن موسم التب يسبق موسم التين بأربعين يوماً.. وذكرني صديق آخر بمسألة تربوية شائعة في مناطقنا، يمكنني أن أشرحها لك، إذا شئت.
- يا ليت. تفضل.
- تلاحظ الأمُّ الأرملة أن ابنها الفتى المراهق يمشي مع شاب قليل الاهتمام بالمدرسة، مدخّن، يرتدي ثياباً غير لائقة، ويقف بالقرب من باب المدرسة الثانوية للبنات وقت انصرافهن، وهذا يعرضه لمشاكل مع أهالي البنات لا تُحمد عقباها، والأم تخاف أن يصبح ابنُها مثل رفيقه، فيضيع.. وعندما تفاتحه أمه بالموضوع، ينفي أن يكون مثل رفيقه، وأن سلوك رفيقه لا يعجبه أصلاً، فتقول الأم: أنت لست مثله، أنا أعرف، ولكن، يا ابني، حط التبّة جنب التينة بتستوي (أي: إذا وضعتَ ثمرة تب بالقرب من ثمرة تين سرعان ما تنضج)، وهذا تنويع على مثل آخر يقول: قل لي من تعاشر أقل لك مَن أنت.
- كلام جميل، ولكنني لم أفهم، لماذا تحدثتَ عن أم أرملة تربي ابنها؟
- الأمر يا أبو أحمد بسيط للغاية. الفتى الذي يفقد والدَه يصبح أكثر تمتعاً بالحرية من غيره، والأم الأرملة، في هذه الحالة، تمثل حالةً ديمقراطية إلى حد ما، وأقصى ما تفعله تجاه ابنها المراهِق هو النصح والحوار. لو كان الأب حياً لاكتفى بإصدار أمر حاسم: ممنوع تمشي مع فلان. ونقطة على السطر. وهناك مثل آخر، ذكره أحد الأصدقاء في تعليق له، مشتق من موضوع التب.. حكايتُه أن رجلاً مجنوناً شرساً اسمه فريد، لم يكن أحدٌ ليجرؤ على الاقتراب منه سوى شقيقه الأكبر خليل، الذي كان يمسك أذنه "بالبنسة"، ويسحبه أمامه، حتى يصل به إلى الدار، وكان أهل الحارة يقولون (خليل بالنسبة لفريد متل التبّ للتين).. وهذا المثل يُستعمل في حالات أخرى، منها ذلك الجَدّ البخيل، الذي كان يحمل لقب "حَلَّاب النملة"، ويقولون في وصفه إنه لا ينزّ، ولا يندّي.. أبناؤه وأحفاده لا يستطيعون أن يحصلوا منه قرشاً سورياً واحداً، مهما حاولوا، وكان بين الأحفاد فتى محتال، اسمه، فرضاً، "جمول".. كان جمول يدخل إلى حيث يجلس جده، وبعد نصف ساعة يخرج ومعه نقود تكفي لإقامة وليمة للأسرة كلها، وأثناء تناول الجميع الأطعمة الفاخرة يهمس أحدهم لجمول: أيش قلت لجدك؟ كيف لعبت بعقله لحتى نَزّ؟ فلا يرد. وأحد الأبناء يسأل أباه: أبوي، أيش عمل لك جمول حتى خلاك تطلع عن طورك وتعمل عزيمة فاخرة؟ فلا يرد. ووقتها يعلق أحدهم قائلاً: جمول بالنسبة لجده (متل التب للتين).
- ما أجمل هذه الحكايات يا أبو مرداس. وبالمناسبة، أنت تحدثت في إحدى تدويناتك عن العم "أبو الياس" مطرب معرة مصرين الشهير. هل تعرفه شخصياً؟
- طبعاً. وقد زرته، سنة 1995، في بيته القريب من شركة الكهرباء، وكان عمره، يومئذ، في حدود 100 سنة، وسألته عن إبراهيم هنانو، فقال لي إنه يعرفه شخصياً، وأنه قبل أن يلتقيه نظم موالاً سبعاوياً لمديحه، خَصّ نَصّ، وغناه له.. وكان مكان لقاء بهنانو مضافة محمد علي آغا القصاب في بلدة معارة الإخوان الدرزية، حيث كان هنانو، عندما تشتد المعارك، يودع ولديه طارق ونباهة عند هذا الرجل، وإذا اقتربت القواتُ الفرنسية من منطقتنا كان يأخذهما إلى بلدة السقيلبية، غرب حماه، ويودعهما عند رجل اسمه الياس عبد الله. وأذكر أنني سألته عن أغنية "زين يابا" التي كان يؤديها في الأعراس، فقال لي: لا أعرف مَن هو مؤلفها الأصلي، ولكنني أبلغُ قمة الطرب حينما أغنيها:
زين يابا، اقعدْ قبالنا، حاج تعدّ قروشْ يابا، طَمَعْتَهُنَّ.
قم يا أمير الغزلانْ، كي ننفي التَراحِ
واسمع لصوتِ العيدانْ، قد غنى وناحِ
اترك قولَ الصاحي صاحي، واسمع قولَ اللاحي لاحي
الحب قد وافانا في وقت الصباحِ
ويا بنت أجيكي منين، والباب عليه عبدين؟
قالت تعا بالليل، أيا ليل ليل ليل
أمي وأبوي نايمين
- بالفعل هذا شعر جميل. وأنا، على الرغم أنني أعيش في إدلب، سمعت بأبو الياس كثيراً، ولكنني لم ألتق به.
- بالمناسبة، روى لي صديق اسمه "أبو سمير"، قصة تبعث على الأسى، ولكنها، في الوقت ذاته مضحكة. كان أبو علي يحب "أبو الياس" كثيراً، ويزوره في بيته دائماً، لكي يطمئن عليه. وذات مرة التقاه أمام مقهى محمد قدور بيطار، فدعاه إلى فنجان قهوة، وخلال احتسائهما القهوة، سأله عن أحواله، فتنهد أبو الياس، وباح له بأنه منذ ثلاثة أسابيع لم يطرق أحد بابه ويطلب منه إحياء عرس، أو حتى ختان ولد. وبينما هما يتحادثان في هذا الأمر، إذ دخل شخص، سلم عليهما، وقال لأبو الياس:
- تفضل إلى قريتنا البلاطة (اسم افتراضي) يوم الخميس، لكي تعزف وتغني في عرس شقيقي، وبالنسبة للأجور لا نختلف، إذا شئت أدفع لك سلفاً.
بلباقته المعهودة، اعتذر أبو الياس للرجل، وأكد له أنه متفق مع أحد أصحابه هنا في معرة مصرين لكي يحيي حفلة عرس ابنه. بعد مغادرة الرجل، قال أبو سمير:
- أنت يا عمي أبو الياس مَخْوَلْتني (أدهشتني). قبل قليل كنت تشكو من قلة الزبائن، والآن تقول للرجل إنك مشغول، وإن عندك عرساً لأحد أصحابك.
قال أبو الياس: ما قلتُه لك في البداية هو الصحيح. وأما هذا الرجل الذي يدعوني إلى عرس أخيه، فهو من قرية البلاطة، وأنا أحييت فيها عرساً ذات يوم، وتبت. مستحيل أن أعيدها.
قال أبو سمير: لماذا؟
قال: لأن أهل هذه القرية يسهرون على دفعتين، المطرب يغني للدفعة الأولى، وحينما يستبد بهم الطرب ينامون، ووقتها يجب عليه أن يغني للدفعة الثانية، حتى يناموا، وتكون المجموعة الأولى قد استيقظت.. ويبقى الأمر مستمراً حتى الصباح، والنائمون والمستيقظون يشتركون في عادة غريبة، وهي أنهم يطلقون النار من مسدساتهم ابتهاجاً بالعرس، ولكن ليس في الهواء، بل بين الأرجل!