محاورة: مرفأ آمن ولو إلى حين
منصورة عز الدين
(هذا النصُّ هو الثاني من أربعةِ نصوصٍ، تشكّلُ بمجموعِها محاورةً بين الروائيةِ السورية روزا ياسين حسن والروائية المصرية، منصورة عز الدين، وتتمحورُ حول الكتابة وجدواها في عالمٍ فقدَ إنسانيته. تمكن قراءة النصّ الأوّل على هذا الرابط)
عزيزتي روزا،
فاجأني العدوان على غزّة وأنا في الولايات المتحدة الأميركية، منخرطةً في العمل على نصٍّ ذي صلةٍ بالفجيعة، فتوقفت تمامًا عن الكتابة. غطى الركامُ والغبارُ ودخانُ الحرائق كلماتي ودفنها في جوفي. رافقني صراخُ أمهاتٍ ثكالى ينادين على أطفالهن وسط قرقعات القصف والدمار، كموسيقى تصويرية تؤطّر ساعاتِ يقظتي وتتسلّل منها إلى كوابيسي.
هذه المرّة، وعلى العكس من مرّاتٍ عديدة سابقة، لم يساورني أدنى شك في جدوى الكتابة وفاعليتها، فالصراعُ في جزءٍ كبيرٍ منه هو صراع سرديات، لكنني وجدتُ نفسي عاجزةً عن كتابةِ أيّ شيء خارج لحظة غزّة، وما تمرّ به من أهوال. وتولّد لديّ نفور من كلِّ كتابةٍ تُقارب الموضوع بتثاقفٍ وحذلقة، نفور نابع من شعوري بأنّ البلاغة والفحولة اللغوية ليستا فقط عاريتين وبلا معنى وقت الكوارث، بل أيضًا مثيرتين للاشمئزاز. أتفهم التلعثم وأتعاطف معه في أوقاتٍ مُماثلة، وأثق في تأوهاتِ الضحايا والمكلومين أكثر من ثقتي في أيّ نصوصٍ مبالغة في تنميقها. وكلّما ازدادتْ جماليات اللغة وتفاصحها في نصٍ عن جحيم أرضي ما، تضاعف نفوري منه. يذكرني هذا بما سبق وكتبتُه في قصة "مِن خشب وهلاوس" (مأوى الغياب – 2018): "قد يكون ما يروعني أنّي حين أكتب ما شهدتُ عليه، أستشعر جمالًا خفيًا كامنًا فيه. تخونني اللغة، تسحبني إلى جمالياتها. أقرأ فأجد الخرائب جذابة، والموت اليومي مصاغًا بدقة بارعة تنقيه وتعزل الوجع بعيدًا، تطرده من المشهد ولو مؤقتًا."
هذه الكلمات ترد في القصة على لسانِ ناجٍ في مدينةٍ مدمرةٍ، شاهد وحيد يتفحص مفهومَي النجاة والكتابة بوصفها شهادة، وتؤرقه الهوّة الفاصلة بين اللغةِ والواقع، إذ ثمّة دومًا ما لن تقدر اللغة على القبضِ عليه، ما سيتسرّب منها، ثمّة دومًا ما لن يُقال وما لن يُباح به، ما سيبقى مُضمرًا، وما سوف يكتملُ في مخيلةِ القارئ ويلتئمُ بفضلِ التأويل.
لقد هالني ما كتبتِه عن ذلك الرجل الذي كان يغسل مئات الجثث، كمن يسقي أشجاراً في حقل. بفضل كلماتك، كدت أرى أشجارًا بشرية تُروَى في حقل، تخيّلتها تجوسُ الأرجاء، في ظلمةِ الليل، بحثًا عمّن يشرح لها: بأيّ ذنب قُتِلَت؟ أو على الأقل بحثًا عمّن يروي حكايتها.
تلقيت جواباً ضمنياً على سؤالي الأساسي عن جدوى الكتابة عبر تشبّثي بالكتبِ كطوقِ نجاة
مجرّد كتابتك لهذا الحدث، ولو كمثالٍ عابر، بعثه من هوّة العدم، وحفظه بطريقةٍ ما. ربّما لن نعرف أبدًا أسماء هؤلاء الشهداء، وبالتالي لن نطلِّع على تفاصيلِ لحظاتهم الأخيرة، ولا دقائق ما اختبروا من فظائع، لكن كلّ من سيقرأ كلماتك هذه، سيعلم أنّ جرمًا بشعًا قد ارتُكب في حقهم، وأنّ هذا الرجل المجهول حاول إكرامهم قدر استطاعته، وأنّه بتأبطه ألبوم صورهم سعى لمقاومةِ النسيان عبر أرشفةٍ من نوعٍ ما.
أمّا عن الشكوك والهواجس، بل وحتى الأوهام، فقد تصالحتُ، بمرورِ الوقت، مع فكرةِ العيش معها. أدركتُ تمامًا أنّها جميعًا جزء لا يتجزّأ من حِرفةِ الكتابة، وهي حِرفة مراوغة ماكرة، يكمن مقتلها في اليقينِ والطمأنينة. لقد أعادتني رسالتك إلى فترةٍ مؤرقةٍ مررت بها في 2012، ودامت لسنواتٍ قليلة، فترة تملكتني فيها الشكوك في جدوى الكتابة ودورها حين يسودُ العنف. لكن للمفارقة، لم أجد في مرحلةِ تشكّكي ويأسي تلك، سوى القراءة والكتابة عونًا لي. أغرقتُ نفسي وقتذاك في "ألف ليلة وليلة"، متمنيةً أن تعيد لي إيماني بالكلمات كونها أحد أرفع النصوص في مديحِ فن الحكي. بالتوازي معها، وجدتُ بعض الأجوبة على أسئلتي في أعمال زيبالد وبريمو ليفي وحنا آرندت. كنت مثقلة بتساؤلاتٍ شائكةٍ عن عبءِ الذاكرة ومفهومِ النجاة وطبيعة الشر، وفي تلك الأعمال وجدتُ رفقةً وسلوى، والأهم أنّني تلقيتُ جوابًا ضمنيًا على سؤالي الأساسي عن جدوى الكتابة عبر تشبّثي بالكتبِ كطوقِ نجاة.
لذا لم أندهش حين اكتشفتُ، من رسالتكِ، أنّكِ قد فعلتِ الأمر نفسه تقريبًا، وإن استعنتِ بكُتَّاب آخرين. لن أقول مثل بول أوستر إنّ "جمال الفن وقوته يكمنان في لا جدواه تلك"، إنّما أقولُ فقط: ربّما يكمن جمال الكتابة في أنّها تقودنا برحابتها إلى التشكّك فيها، واليأسِ منها والكفر بها وإلى انعدامِ ثقتنا في جدواها، وفي قدرتنا على اجتراحها، ثم في إدراكنا اللاحق أنّها قدر لا فكاك منه، وأنّها السم والترياق في آن معًا.
ربما يكمن جمال الكتابة في أنها تقودنا برحابتها إلى التشكّك فيها، واليأس منها والكفر بها وإلى انعدام ثقتنا في جدواها وفي قدرتنا على اجتراحها
إذ لا غنى عن استحضار الصوت المغيّب، عبر التدوين، خاصة حين يكون التغييب في سياق عمليتَي إبادةٍ ومحو ممنهجتين كما في حالة فلسطين. لا أعني بالصوت هنا الأدب حصرًا، إنّما كلّ ما يصبّ في نهرِ السرديةِ الفلسطينية الكبرى منذ النكبة حتى لحظتنا هذه، من حكاياتٍ متقطّعة، وأغنيات وفلكلور وتفاصيل حياة يوميّة وأطعمة وهمساتٍ وتأوهات وجع أو حتى تمتمات خافتة. قد نجد أنفسنا في النهاية أمام سردية متقطّعة أو حتى متشظيّة، لكنها حتى في تقطعها وتشظيها، ستكوِّن فسيفساء تستعيد في ثناياها الكثير مما سبق تغييبه. سوف يسعها، حتى في حالتها تلك، بعثه للحياة مجدّدًا، وتدوين سيرة المحو والإخفاء، وسوف تنتمي للمهمّشين والمنسيين أكثر من انتمائها لسلطةٍ ما. فالتفاصيل الإنسانية الهامشية والخافتة هي ما يرسّخ أيّة سردية ويحفرها في الوجدان.
قد نتساءل، في الحالاتِ العادية أو في أوقاتِ الأزمات، عن دور الكتابة مدركين أنّ تأثيرها الفعلي عادةً ما يكون على نحوٍ فردي وتدريجي، لكن في حالاتِ الإبادة والمحو الكامل لشعب ما، يصبح لكلِّ همسةٍ وصرخةٍ وتمتمةِ أهميتها، يصبح تدوين قصة المحو، كوسيلة لمقاومته (الشعب)، شاغلًا أساسيًا لا يترك مساحةً لما عداه. أتذكر أنّني قرأتُ يومًا أنّ إميل حبيبي اتجه إلى الكتابة الإبداعية ردًا على وزير المعارف الإسرائيلي آيغال ألون، الذي نفى بعد هزيمة 1967وجود شعب فلسطيني، بحجّة أنّه لو كان هناك فلسطينيون لأنتجوا أدبًا.
ثمّة حالات تكون الكتابة فيها قضيّة وجود ومقاومة للمحو حرفيًا لا مجازيًا، لكن الخطر المُحدق بها في حالاتٍ مماثلة يتمثّل في إمكانيةِ تحوّلها إلى بروباغندا، والبروباغندا رديئة بالضرورة والتعريف، حتى لو وُظفت لخدمةِ قضيةٍ عادلة. فمن مكرِ الكتابة ومفارقاتها اللافتة أنّها تؤثر أكثر إن لم تسعَ للتأثير بمعناه الدعائي الساذج. تنحفر في نفوس القرّاء إن وُلِدَت من رحم ألمٍ عظيم، وخرجتْ مثل شهقةِ الغارق.
وعلى ذكر الغرق، دعيني أخبرك، أنني مثلك، قضيتُ فترةً مسكونةً بصور غرقى المتوسّط، من فقدوا حيواتهم في أوديسة الهرب من الموت والحلم بمرفأ أمانٍ على الجانب الآخر من بحرٍ تحوّل إلى مقبرةٍ شاسعة. نبتت بذرة روايتي "أخيلة الظل" (2017)، هناك في أعماق المتوسّط، وخيَّم عليها طيفُ الغرق بوجوهه المتعدّدة. لا يمكنني قول إنّني كتبتها، وفي ذهني مقاومة النسيان، كلُّ ما في الأمر أنّني في ذاك الوقت، شعرتُ بأنّني مثلهم، أختنق في أعماقِ ماءٍ يكاد يفجِّر رئتَيّ. تملكني شعور أنّني، كما قالت إنغبورغ باخمان: "أكتب، بيدي المحترقة، عن طبيعة النار".
التفاصيل الإنسانية الهامشية والخافتة هي ما يرسّخ أيّة سردية ويحفرها في الوجدان
حقيقة لا أعرف يا صديقتي: هل نكتبُ فعلًا لنقاوم النسيان أم أنّنا نستدعيه أحيانًا عبر الكتابة؟ ننقل مخاوفنا وكوابيسنا وهشاشتنا، نعرّيها ونعرضها أمام الأعين الفضولية، على أملِ التخلّص من عبئها ووضع مسافةٍ مفترضةٍ بيننا وبينها. لكننا سرعان ما ندرك أنّ ثمّة أشياء لا يسعنا تجاوزها أو نسيانها، أيمكن التخلّص من طيفِ إبادةٍ؟ أبمقدورنا إذابة ضجيج الصراخ المكلوم والانفجارات المدوية ورجفاتِ الخوف في كلماتٍ، ثم مواصلة حياتنا كأنّ شيئًا لم يحدث؟ يؤبّد التدوين كلّ ما مررنا به وشهدنا عليه، أو كما قال الناجي/ الشاهد في "مِن خشب وهلاوس": "ما أكتبه يخيفني لأنه يُثَبِّت كلّ ما رأيت من أهوال. يحييه ويكرره بلا نهاية فلا يمَّحِي من ذاكرتي."
ربّما تكون الكتابة الأمرين معًا: رحلة شاقة تغصّ بأسئلةٍ وشكوكٍ ووساوس تضعنا في عين الإعصار، ومرفأ آمنًا يحمي من وحشيةِ العالم، ولو إلى حين. وقد يتمثّل دورها كمرفأ، بالأساس، في كونها تعين من يحتمي بها من كُتَّاب وقرّاء على تفكيكِ الشرّ وتسمية الأشياء بمسمياتها، ما يقود في النهايةِ إلى تخليصِ اللغة ممّا علق بها من أدران التزييف والتضليل.
في النهاية، وفي سياقٍ متصل، أرغب في سؤالكِ عن وضعكِ كامرأةٍ عربية تقيم في الغرب منذ سنوات، وإلى أيّ حد ساعدتك الكتابة في تذليلِ ما يواجهك من عقباتٍ وصورٍ نمطية، خاصة في ظلّ الأحداث الراهنة؟