مخاطرُ السرديّات التاريخية الانتقائية
هل التاريخ الذي يُدرَّسُ في أيًّ مكانٍ في العالم هو حقيقة ما جرى؟ هل يُوثّقُ التاريخُ البشري بأمانة وصدق؟ وهل يمكننا أن نثقَ بكتبِ التاريخ المدرسيّة؟
أسئلةٌ كثيرةٌ تُراودُ المرءَ كلّما تعمّق في مساءلةٍ تاريخيةٍ، واكتشف السنوات الضوئية التي تفصل ما يمكن أن يكون أقرب لحقيقةِ ما جرى عن السرديّاتِ السائدة، السرديّات التي تُروِّجُ لها السلطات الحاكمة من شرقِ الأرض إلى غربها.
في حقبةِ ما بعد الاستعمار، واجهتْ العديد من الدول والكيانات الوليدة التحدّي المتمثّل في صياغةِ هُويّةٍ وطنيةٍ متماسكة، أحيانًا، بهدف الحفاظ على الوطنِ الوليد، وأحيانًا أخرى لم يعدُ الأمر كونه حفاظًا على الإمساكِ بزمامِ السلطة. وفي حين أنّ الروايات التاريخية الانتقائية التي تمّتْ صياغتها منذ تلك الأيام، لربّما كانت مفيدةً لخلقِ شعورٍ مُصطنعٍ بالوحدة، فإنّها حملت أيضًا بين ثنايا صفحاتها مخاطر جمّة. فلطالما اختُزِلتْ تَراكُمات السرديات التاريخية الانتقائية الإرث الثقافي والتاريخي للشعوبِ، في بضعةٍ شخوصٍ وصولًا لحدِّ التأليه، وعزّزتْ من تهميشِ مجتمعاتٍ معيّنة اعتُبِرَت خطرًا على واضعِ السرديّة الانتقائية، وعطلت النمو الطبيعي للهُويّات الوطنية الجامعة، وتجاوزَ تأثيرها الجوانب التراثية والثقافية والاجتماعية لينخرَ في أسسِ الحياة السياسية والفضاء العام من خلال المساهمةِ مع مرورِ الأيام في ضياعِ الحقيقة، وتقويض الديمقراطية، وتقييد الحريّات.
فغالبًا ما أعطى السرد التاريخي الانتقائي الأولوية لجوانب معيّنة من التاريخ، بينما أهمل أو حرّف أو حذف جوانب أخرى لا تصبُّ في مصلحةِ مُدّون السرديةِ الانتقائية. هذه الانتقائية أوجدتْ كثيرا من الثغرات والشذوذ في السياق التاريخي والاجتماعي، التي أدّتْ بدورها إلى إيجادِ هُويّاتٍ وطنية مشوّهة ومجزّأة، هُويّات خلقت مجتمعات هشّة قابلة للانفجار عند أبسط احتكاك، هُويّات تُغلِّبُ المصلحة الشخصية، أو المرجعيات الدينية أو القبلية أو الاثنية على المصلحة الوطنية عند أوّل امتحان. فعندما تمّ التغاضي عن المساهماتِ التاريخية للمجموعات المتنوّعة داخل المجتمع لمصلحةِ روايةِ الطبقات الحاكمة والحفاظ على مكتسباتها، وأُسقِطَتْ فصولٌ من التاريخ ظنّ مدوّنه أنّها ليست في مصلحته، بدأ شعورُ المجموعات المهمّشة بالغربة والانفصال عن هذه النسخة المشوّهة من الرواية التاريخية التي لم تعدْ تعنيهم. وأضعف هذا الإقصاء بالنتيجة التماسك الاجتماعي وعزّز الانقسامات داخل المجتمع، وانتشرتْ عدواه حتى طاولت مع مرور السنين الجماعات غير المهمّشة التي حُسِبت تاريخيًا على واضع السرديّة الانتقائية نفسه، بعد أن بدأت مكتسباتهم بالتآكل مع مرورِ الوقت.
السرد التاريخي المُصطَنع لغايةِ تأكيد شرعية ومركزية سلطة معينة لا يؤدي إلّا إلى مركزية الطبقة الحاكمة، على حساب المؤسسات والعمليات الديمقراطية
وللأسف حتى يومنا هذا في كثيرٍ من الدول والمجتمعات شرقًا وغربًا لم تقتنعْ فئاتٌ كبيرةٌ بعد بأنّ التركيز على روايةٍ مصطنعة واحدة مهيمنة لا يعكس التنوّع الحقيقي للتجارب والهُويّات التي تشكّل الأمّة. ومن خلال التركيز على منظورٍ تاريخيٍ فردي من منطلقِ فردانية السلطة الحاكمة، غالبًا ما يتم قمع التاريخ والروايات البديلة، بما يخنقُ التنوّع الثقافي ويمنع الفهم الكامل والسليم لماضي الأمّة الذي شكّل حاضرها، وسيُبنى عليه مستقبلها، وفي كثيرٍ من هذه السياقات تصح عبارة ما بني على باطل فهو باطل.
وبعيدًا عن تشكيلِ الهُويّات الوطنية، فإذا نظرنا إلى هياكلِ الدولة فإنّ السردَ التاريخي المُصطَنع لغايةِ تأكيد شرعية ومركزية سلطة معينة لا يؤدّي إلّا إلى مركزية الطبقة الحاكمة، على حساب المؤسسات والعمليات الديمقراطية. فعندما ترتبط الهُويّة الوطنية وهياكل الدولة بشكلٍ وثيقٍ بمصدرٍ واحد للسلطة بناءً على السردية التاريخية الانتقائية، قد يُنظر إلى المعارضة السياسية والدعوات للإصلاح على أنّها تهديد للوحدة الوطنية، بشكلٍ يُسهّل من عمليةِ تجريد الأصوات الإصلاحية من مصداقيتها وتخوينها وشيطنتها. وبالتالي، تبرير أيّة تدابير تقييدية أو قمعية اتجاه أيّ صوتٍ يغرّد خارج السرب حفاظًا على الوضعِ الراهن، مما يؤدّي إلى تآكل أسس الديمقراطية من خلال تقييد التعدّدية السياسية إلّا في حدودِ هذه السرديّة، والحدّ من المشاركة المدنية إلّا إنْ تغنّت بالرواية الرسمية، وتأطير أيّ مشاركة في الفضاء العام في حدودِ ما تسمح به هذه السردية الانتقائية، فكلُّ ما خالفها خروجٌ على الإجماعِ الوطني، مما يجعل من أيّ عملية سياسية مجرّد مسرحية هزلية رديئة الإنتاج، لا تعدو كونها إكسسوارا أمام مؤسساتِ المجتمع الدولي الفاسدة في الأساس.
مع قمع الروايات البديلة، أو حتى التي تتناول التاريخ من زوايا أخرى، تزدادُ حدّة الاستقطاب في المجتمع
في النهاية، لربما توفر صياغة هُويّة وطنية من خلال سرديّة تاريخية انتقائية الاستقرارَ والوحدة على المدى القصير، إلا أنّ المخاطر على المدى الطويل كبيرة، فمع مرور الوقت تفشلُ هذه السرديّات المصالحية في الحفاظِ على تماسكِ نسيج المجتمع، وتزدادُ الهوّات اتساعًا بين فئاته، ومع قمع الروايات البديلة، أو حتى التي تتناول التاريخ من زوايا أخرى، تزدادُ حدّة الاستقطاب في المجتمع، ومع التقدّم التقني وتوفّر المعلومات لم يعدْ بالإمكان احتكار المعلومة التاريخية أو الاستمرار بتزيفها بإتقان. ولتعزيز هُويّة وطنية حقيقية جامعة بعيدًا عن السردِ التاريخي الانتقائي، من الضروري تبني نهج شامل يعترف ويحتفل بالتاريخ والثقافات والمساهمات المتنوّعة لجميعِ فئات المجتمع، ويواجه الحقائق التاريخية بشجاعةٍ ليتعلّم منها. وينطوي ذلك على تعزيزِ التعليم التاريخي الشامل والمتوازن، التعليم الذي يعطي المساحةَ لنقدِ الماضي والتعلّم من أخطائه، وتشجيع الحوار المفتوح حوله، والاعتراف بتجارب ووجهاتِ نظرِ الفئات المعارضة والمهمّشة، من خلال تعزيز بيئةٍ يرى فيها جميع المواطنين أنّ تراثهم وقصصهم تنعكس في الروايةِ الوطنية، وأنّهم شركاء حقيقيون في صناعةِ هذا التاريخ وتدوينه.