مذبحة "حوريات" في جنة كمال داوود الموعودة
تطاردنا عبارة لكريستيان بوبين: الكتابة تعني عدم نسيان أي شيء ينساه الآخرون، وعليه فإنّ الكاتب هو ضدّ قواعد المضيّ قدمًا، الكاتب هو ذاكرة الشعوب، والعودة إلى البارحة، إنّ الأدب هو أرض التعقيد وتعدُّد الأصوات والرؤى، أن تعود إلى الحقيقة يعني أن تعود إلى الجوهر اللاتاريخي عن "الخير" و"الشر"، "الحضارة" و"البربرية"، أن تعود محمَّلًا بالغضب يعني أنّ تشويهًا متعمَّدًا سيصبح تاريخًا للتاريخ المشوَّه بالأصل، وأنّك في محاولة ما لإنقاذ التاريخ من النسيان تعمِّق نسيان تاريخه، الهروب من النسيان لا يمنحك الحق في تشويه القصة وتشويه الضحايا، الهروب من النسيان يعني أن تعود مستشرقًا لا ضحيّة، فهل كتب كمال داوود "حوريات" حتى لا ينسى أم حتى يبالغ في النسيان؟ هل استغلّ كمال داوود فكرة الكتابة ضدّ النسيان حتى يجد المساحة الواسعة لدفن غضبه أم ليمدّ قدمَي عدائه؟
تُوِّج الكاتب الجزائري الفرنسي كمال داوود بجائزة غونكور عن عمله "حوريات" الذي تناول فيه مأساة التسعينيات أو ما يُطلق عليه في الجزائر بالعشرية السوداء. يعود بنا كمال إلى وهران، وربما يعود بنفسه أولًا إلى هنالك، وعبر بطلته فجر التي تختار أن يُنادى عليها أوبي سينهي صلته مع كمال داوود الذي تركه عالقًا بين تلك الأحداث الدامية، سيتقدَّم نحو كمال المتشدِّد حاملًا سكّينته ليجزّ بها عنقه، إنّه "عيد أضحى" كمال إذن في ساحات وهران التي يصف احتفالها بهذه المناسبة ببغض شديد في مستهلّ الرواية، ليست فقط السماء من ترسل كباشها إذن حتى الكتابة تفعل ذلك، ليست السماء لوحدها من تسفك الدماء بل حتى كمال داوود، ليست الجنة قصرًا لحوريات خالدات، فهنالك حوريات يمتن على أبواب جنان الكولونيل، وبنظرة استشراقيّة يستولي على الواقع، يختار الصفات التي تهين بشدّة ثقافة مجتمعه.
حتى الأبرياء ضحايا غضب كمال داوود من ذاته، المسلمون يذبحون مسلمين آخرين لأنهم يذبحون الأغنام كل عام خلال احتفالات عيد الأضحى، الفتاة البريئة في المدرسة منحها علامة صفر، الأستاذ شخص أصلع بسروال لا يغيِّره، النساء لا يستحممن ولا يمشطن شعرهنّ، شخصيات ضحايا حتى وهم شخصيات داخل العمل الأدبي، يغالي في تحميلهنّ تلك البشاعة حتى لا يعود ثمّة في تلك الرواية ضحية سوى "بطلته" لا يعود ثمّة ضحية سوى كمال داوود نفسه، يعود كمال الفرنسي بقلمه إلى كمال الجزائري المحكوم عليه بسمرته الأفريقية، مثلما تعود أوبي إلى فجر، وهنا داخل هذا العمل يعلن قطيعته التامة مع جذوره، الرواية مثَّلت للكاتب الصرخة الأخيرة قبل السقوط إلى النسيان الأبدي، قبل الخروج من الجلد البيولوجي والالتحاق رمزيًّا بالجلد الكولونيالي، فكمال داوود المتشدِّد والمنتمي إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ ما زال يلاحق كمال المصاب بمتلازمة أبولينير، طيفه يحلِّق فوق إحساسه الضئيل بأنه ليس فرنسيًّا تمامًا وأينما واجهته الميكروفونات أو الصفحات البيضاء صرَّح بمعاداته للتطرُّف بطريقة متطرِّفة، ما سمح له بمعاداة المقاومة.
يصرخ كمال داوود بأعلى أفكاره منذ سنوات ليسمعه "الغرب" وكأنّما يريد تقديم براءة ذمّة مما كان يؤمن به، ومما وُلد عليه حتى أصبح فرنسيًّا أكثر من الفرنسيين ذاتهم، ورواية "حوريات" قادته عبر المساحات الواسعة ليحكي ما يودّ الطرف الآخر سماعه، منحت رواية "حوريات" الذرائع الاستشراقية لإدانة الأبرياء وأشهر من خلالها كباشه لكن هذه المرّة ليسوا ضحايا العشرية السوداء فحسب، بل ومعهم ضحايا الحرب على غزّة، لقد أعطت الرواية كل التبريرات لقتل المسلم، الكاتب مصاب بالإسلاموفوبيا والمعاداة كانت هي البطلة الحقيقية في الرواية، النسيان الذي كتب ضدّه الكاتب ليس نسيان المأساة بل نسيان الجلّاد الحقيقي.
فمن الضحية في رواية "حوريات" هل فجر أم أوبي؟ من الجلّاد هل المتطرِّف بسكِّينه أو المتطرِّف بقلمه؟
تعلِّمنا الكتابة أن لا نجاة للكاتب من قرّائه، لا نجاة له من التاريخ حيث حشرته الجغرافيا واستنطقه الوجود، وإذا ما كتب ووضع رموزه تتبَّعها إلى سريرها، الحقيقة، حيث ينفتح الجميع على مصاريعهم، فينظرون إلى داخل بعضهم من خلال النظر إلى لغتهم، ضحايا الكاتب هم أبطال في مكان ما، وأبطال الكاتب هم جزّارون في مكان ما، حتى لا يعود القارئ مجرَّد قارئ أو ضحية جديدة بل هو شاهد ومتطرِّف وبريء ومحكوم عليه بالإعدام، الزئبقية التي يكتسبها من القراءة والحقيقة تشكِّل لديه المعرفة الجادّة بين الجمال الكاذب والكذب الجميل، فحينما تختفي فجر أو يتمّ دفنها أو ربما وأدها - فهذا المصطلح الأجدر لكاتب يرتعش من المصطلحات لأنّه ضدّ النسيان، ولأنه كلما بالغ في تجريمه تبنّاه، ينسى حينما يسترسل في الكتابة أنه يمارسه، أنّه تحوَّل إلى الجلّاد الذي هرب منه - تختفي الشخصية الحقيقية التي عانت مرارة محاولة الذبح، فتظهر أوبي المقاومة الرافضة لكل العادات صاحبة صالون الحلاقة المجاور تمامًا للمسجد، ومن داخل ذلك الصالون يسير الجميع في زمنين موازيين، الماضي والحاضر.
بلغتين مختلفتين تمامًا يجرم كمال داوود اللغة بدسّ الشاعرية فتسيل الأفكار المتطرِّفة رحيمة وهادئة نحو مجراها، يعادي لغته الأم، فجر التي قُطعت أحبالها الصوتية، وأوبي التي تقيم الآن لغتها الدافئة نحو الداخل، اللغة العربية هي اللغة الخارجية والفرنسية هي اللغة الداخلية، "هذه اللغة الجميلة الرنّانة الصامتة"، اللغة التي تتحدَّث بها مع نفسها لسنوات، اللغة التي تستخدمها دون خوف بحيث يمكنها الاسترسال في التذكُّر وإعلان عدائها لجيرانها والله وأئمته الذين سرقوا منها أشياءها الثمينة وكأنّما يبرز كمال داوود بشدّة هنا، "الفرنسية إذن هي لغة الأحلام، لغة الأسرار، لغة من لا لغة له" هذا الأمر يختلف عند فجر، لغة فجر جزّار، وكما يبدو جليًّا فإنّ اللغة العربية وحدها هي القادرة على التعبير عن التعصُّب والإرهاب وجزّ الرؤوس، تصوُّر لا يخفيه الكاتب وهو يحاول تفكيك اللغة بما هي أيديولوجيا. الفرنسية لغة الحضارة، والعربية لغة التوحُّش، نجده أيضًا حينما تشرح البطلة "لحوري" كتاب التاريخ: لغة "مثل الليل" عن العربية و"مثل الكرواسون" عن الفرنسية، هنالك إذن ضحيتان وجلّادان، والزمن وحده هو من يدير الأدوار، هنالك كاتب يعيش كفجر تارة ويعيش كأوبي تارة أخرى، كاتب قُطعت أحباله القلمية لأنّه مع التطرُّف تارة، ومنقلبًا عليه تارة أخرى، مع حورية، خديجة، مريم، حنان، فجر، أوبي، الحمراء... مع المرأة علنًا ومتَّهمًا بتعنيف زوجته خلف الأبواب الموصدة.
فهل يمكن الكتابة عن الحرب الأهلية الجزائرية دون أن نتلطَّخ بدماء الأفكار؟
دائمًا ما كان الحديث عن الحروب الأهلية هو الحديث الأكثر ألمًا وحساسية من الحديث عن الحروب الأخرى، لأنّ العدو هو أقرب الأشخاص إليك، نعم، حيث يمكن لشخصيات حقيقية على قرابتها أن تتحوَّل إلى سكاكين على رقاب بعضها البعض، الإخوة يقتلون إخوتهم، ثم يعود إخوة آخرون لينتقموا لإخوتهم من إخوتهم، فهل رواية "الحور العين" استطاعت أن تنجو من فخ "الحروب الثقافية" وتنقذ أبطالها؟ أم أنّ الدماء طاولت الأفكار؟
لا يختلف اثنان على الروح الرجعية التي كُتبت بها هذه الرواية والشبيهة تمامًا بافتتاحيات كمال داوود في صحيفة لوبوان التي اصطفَّت بشكل أعمى مع الأطروحات المحافظة والنيوليبرالية
لا يختلف اثنان على الروح الرجعية التي كُتبت بها هذه الرواية والشبيهة تمامًا بافتتاحيات كمال داوود في صحيفة لوبوان التي اصطفَّت بشكل أعمى مع الأطروحات المحافظة والنيوليبرالية، إنّ النظام "الجوبيتيري" الحالي هو جزء من هذا اللافكر الرجعي الذي ظلَّت صحافة بولوريه ووسائل الإعلام تروِّجه منذ عدّة سنوات، وحينما يدَّعي الكاتب مرارًا وتكرارًا أنّ الجزائر ليست مولعة بسماع قصص الناجين من الحرب الأهلية، وأنّ عمله هذا ضدّ العقبات، ولأجل أن ينتشل الضحايا من أحبالهم الصوتية المقطوعة نعلم جيدًا أنّ نداءاته هذه هي لأجله أولًا لا لأجل الضحايا أنفسهم، أنّ الضحايا الملطَّخين بالسكاكين لطَّخهم مجدَّدًا بحبره، ولا يمكن مطلقًا أن تعود إلى الحرب بقلم مؤدلج لتنصف الأبرياء، يمكنك أن تدَّعي أنك كسرت التابوهات فتظهر مرّة أخرى على لسان شخصية عيسى جرادي، ابن بائع كتب وناشر ثوري وبلسانه ستتحدَّث أوبي لا فجر، سيتحدَّث كمال داوود أبولينير متحدِّيًا نسيان الحرب والسلطات التي تربِّي في الناس حاسة فقدان الذاكرة الإرادي - على حسبه -، يريد الكاتب عن طريق صناعة مأساة ما بعد مأساة الحرب الأهلية أن يعمِّق الجريمة ويدين الجميع دفعة واحدة، وكأنّه الكاتب الوحيد الذي تناول موضوعًا كهذا.
عبر أربعمئة صفحة تجاهل المكتبات التي تعجّ برواياتٍ دارت مواضيعها حول هذه الحقبة باللغة العربية والفرنسية والأمازيغية، تبرز السلطة التي يلاحقها كمال داوود في ردّ العقيد على عيسى: "كما ترى يا بائع الكتب الصغير، نحن نخدم السلام وما تقوله في مقهى الحي الخاص بك لا يساعد على السلام الذي يريده رئيس جمهوريتنا. ما تقوله يلهب عقول الناس، ويجعلهم يرغبون في الانتقام، وهذا ليس صحيحًا دائمًا. ما هو الدليل الذي لديك على ما تقوله؟ إيه؟ لا شيء"، لا يخاطب الجزائري المسكوت عنه، بل يدين الجزائري في الطرف الآخر من البحر، ففجر أو أوبي التي نجت من مذبحة يوم 31 ديسمبر/ كانون الأول 1999 عن عمر يناهز الخامسة قضت على ألف قروي من ضمنهم والدها ووالدتها وأختها، نجت بندبة سكِّين أفقدتها مقدرتها على الكلام وخلقت بالمقابل ذاكرة من 17 سنتم على لحمها الناجي حيث كل شيء يصبح علامة، وكل شيء هو ذاكرة، أراد الكاتب إخراس بطلته ليخلق لنفسه "السرِّية" اللازمة إذا ما تحدَّثنا عن مواضيع كهذه، كأنّما يشير إلى قانون المصالحة الوطنية الذي يمنع عودة الحديث عن هذه المعاناة، ولا نعلم هل أوبي هي أوبي أم هي كل الأشياء المدفونة في صدر البلاد، أو صدر كمال داوود، شخصية مخطوفة من عامّة الأحاديث لكنها الصوت الأعلى للأحداث، مقطوعة الأحبال مع الخارج مربوطة بحبل سرّي نحو الداخل مع جنينها الذي تريد إجهاضه، لا أحد يمكنه مقاطعة ذلك المونولوج، لا الجنين ولا الذين من حولها، وهذا ما عاش يتمنّاه كمال داوود، أن يتحدَّث بإسهاب دون أن يقاطعه أحد، يريد أن يفرغ استشراقه الآن بالأدوات الأدبية والأسلوب الشعري والمأساة الغارق ضحاياها في النسيان، وعبر المونولوج عاد كمال داوود بنفسه ولطَّخ نفسه، عبر البحر المتوسط حتى يستطيع أن يقول "أنا" في أربعمئة صفحة.