مذبحة غزّة وكيّ الوعي العربي
إذا أردتَ تعريفًا للخذلان، أو مشهدًا يُجسّده، ويُجسّد معه الذل والهوان العربيين، فانظر لقطاع غزّة وما يجري فيه من جهة وللجدار المصري من جهةٍ ثانية، لترى أكبر جيش عربي في أكبر دولة وهي تتفرّج على الأطفال والنساء الذين يحاولون الاحتماء بجدارها دون أن تفعل شيئًا، فيما يتعدى العدو الإسرائيلي على أمنها القومي، ويستعرض دبّاباته ويرفع علمه، دون أن تُحرّك ساكنًا.
تحاول إسرائيل كيّ وعي الفلسطينيين وإجبارهم على الاستسلام والرحيل عن أرضهم، مستعملةً في ذلك أعتى أنواع السلاح والإبادة، ومستقويةً بدعمٍ أميركيٍ وغربيٍ غير محدود، إضافة إلى التحالف مع دولٍ عربيةٍ (التحالف هو المصطلح الأدق وليس التطبيع)، مستفيدةً من حالةِ رخاوةٍ وغيابٍ للدول المركزية، وغياب القوى الحزبية والوطنية العربية عن الفعل السياسي جرّاء عقود من ملاحقة الأنظمة المستبدة لها.
وفيما تعملُ إسرائيل على كيّ الوعي الفلسطيني، تعملُ الأنظمة العربية المتحالفة معها على كيّ الوعي العربي، مستميتةً لإقناعِ شعوبها بأنّ فلسطين لم تعدْ قضيةً عربية، ويجب تصفيتها، وأنّ الشعب الفلسطيني لا يستحقُ الحياة، وأنّ مصلحتهم تكمن في التصفيقِ لإسرائيل عوضًا عن إسنادِ أشقائهم. كما تقوم تلك الأنظمة بتسويق دعايتها تلك عبر إعلامٍ كشف عن صهيونيةٍ مطلقة خلال الحرب الحالية، إلى درجةٍ باتت معها حتى القنوات الإعلامية العبرية أقل تصهينًا منه، جنبًا إلى جنب مع "نخب" مزيّفة، ورجال دين مزيّفين باتوا يفتون بحرمةِ الدفاع عن الأوطان، وكفرِ من يحاول مقاومة الاحتلال، ووجوب التسليم باحتلاله والتخديم عليه، وحتى العمل كمخبرين له.
مقاومة الشعب العربي الفلسطيني لن تتوقف، ولن تنتهي، وهذا فقط ما يعوّل عليه
محاولة كي الوعي العربي المشار لها أعلاه، لم تقتصر على الإعلام وأجهزته، وإنّما هي سابقة على ذلك بعقودٍ، حيث طاولت مبكرًا المناهج الدراسية العربية التي جرى في كثيرٍ من البلدان تغييرها، إذ حُذفت مُقرّرات دراسية خاصة عن القضية الفلسطينية، في محاولةٍ لمحو الذاكرة وطمسِ تاريخ الصراع وجذوره والمحطات التاريخية التي رافقت ولادة إسرائيل، والتي تزامنت ولادتها مع مشروع تقسيم وتفتيت العالم العربي والإسلامي. هذا هو التاريخ الذي تحاولُ الأنظمة العربية محوه، بما يوضّح أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي وُلِدتْ كدولةٍ وظيفيةٍ عدوّةٍ للعرب والمنطقة كلّها، كي تكون خنجرًا في خاصرةِ العالم العربي والإسلامي، تمنع توحّده، وتقطع الطريق على أيّ مشروع نهضوي أو وحدوي فيه ومن أجله، وذلك تحت أيّ عنوان كان: قوميًا، إسلاميًا... أو أيّ توجّه وطني آخر.
وبناء على ذلك، يمكن القول إنّه لا يوجد نيّة لدى إسرائيل كلّها (وليس لدى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو فقط) في الوصولِ لاتفاقٍ أو صفقةٍ، فهدف الاحتلال يكمن في إحكام السيطرة على محور صلاح الدين، وإغلاق معبر رفح تمامًا، وذلك بهدف إحكام الحصار التام، والتحكّم بمستقبل غزّة ومواصلة التجريف والتخريب والقتل والضغط لإجبار الغزيين على الهجرة، وليس الميناء البحري الذي تعمل واشنطن على بنائه إلّا لهذا الغرض.
إذن، إنّ إسرائيل ماضية في حربِ إبادتها دون توقف، وهي تسعى لتحويل القطاع إلى مكانٍ غير قابل للعيش، والميناء الأميركي ليس إلّا جزءًا من خطة تل بيب/ واشنطن، وهدفه التهجير ليس إلّا. ومع ذلك، فإنّ مقاومة الشعب العربي الفلسطيني لن تتوقف، ولن تنتهي، وهذا فقط ما يعوّل عليه، كما يبقى الرهان على الوعي الشعبي العربي، فكما لم يتوقع أحد انتفاضة الربيع العربي عام 2011، فلا أحد اليوم يمكنه أن يجزم أن تستمر الشعوب العربية في غفوتها، ستستيقظ فجأًة وبقوة، وهذا وحده ما يعطينا الأمل.