اختلاف مرجعيات حقوق الإنسان... مسألة لا يمكن القفز فوقها
إنّ مفهوم حقوق الإنسان هو مفهوم حديث نسبيّاً في الثقافة الغربية، قام على فكرة "القانون الطبيعي" المتضمّن "حقاً طبيعياً"؛ أي نسقاً من القيم المرتبطة بالإنسان بحكم إنسانيته. وقد ارتبطت فكرة حقوق الإنسان بالثورة الفرنسية، وهذه الأخيرة هدفت إلى التخلّص من استبداد الملوك وسلطان الكنيسة في آن معاً، حيث جرى التأكيد على أنّ للإنسان حقوقاً طبيعية لا إلهية، فالطبيعة تحل محلّ الوحي.
ويشكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر/ كانون الأوّل من عام 1948 مصدراً أساسياً يلهم الجهود الوطنية والإقليمية والدولية من أجل تعزيز وحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في عالمنا المعاصر، وهو حدّد الاتجاه لكلّ الأعمال اللاحقة في ميدان حقوق الإنسان، وأمّن الإطار الفلسفي لعدد كبير من الصكوك الدولية والإقليمية التي استهدفت منظومة الحقوق والحريات التي تضمنتها بنوده.
وقد جاء في الإعلان الصادر عن المؤتمر الدولي الأوّل لحقوق الإنسان، والذي عقد في طهران في عام 1968، أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "يمثل تفاهماً تشترك فيه شعوب العالم على ما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من حقوق ثابتة منيعة الحرمة، ويشكل التزاماً على كاهل أعضاء المجتمع الدولي". كما أكد الإعلان الصادر عن المؤتمر الدولي الثاني لحقوق الإنسان الذي عُقد في فيينا عام 1993 أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يشكّل المثال المشترك الذي ينبغي أن تحقّقه كافة الشعوب والأمم، وهو مصدر الإلهام الذي اتخذته الأمم المتحدة أساساً لإحراز التقدّم في وضع المعايير على النحو الوارد في الصكوك الدولية القائمة لحقوق الإنسان، وخاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وشهد المؤتمر الدولي الثاني لحقوق الإنسان ولادة اتجاه غالب يؤكد على عالمية حقوق الإنسان الأساسية، وأنّ هناك حدّا أدنى مشترك من الحقوق يتعيّن على جميع النظم السياسية أن توّفرها للإنسان الذي ينبغي أن يكون موضوعها الرئيس والمستفيد الأساسي من حمايتها.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما هو إلا تركيز للقيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الغربي في سياق تطوره التاريخي
ما تقدّم لا ينسخ حقيقة أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما هو إلا تركيز للقيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر الغربي في سياق تطوره التاريخي، وإذا كانت العديد من الكتابات الغربية تجهد لتأكيد "عالمية" حقوق الإنسان، فإنّ هناك الكثير من الدراسات في إطار علم الأنثروبولوجيا تؤكد نسبية مفهوم حقوق الإنسان وحدوده الثقافية وتركز على أهمية النظر في رؤية حضارات أخرى للإنسان وحقوقه، فالفلسفة السائدة في الأنثروبولوجيا المعاصرة تستند إلى التباين والتعدّدية في الثقافات والخصوصيات الحضارية على مستوى المناطق والشعوب.
الجدير ذكره أنّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان صدر في وقت كان فيه عدد الدول المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة 56 دولة، أغلبها غربية، وهو نال 48 صوتاً، بينما امتنعت ثماني دول عن التصويت، هي: الاتحاد السوفييتي، إلى جانب خمس دول تدور في فلكه، وأفريقيا الجنوبية والمملكة العربية السعودية، هذا فضلاً عن أنّ اللجنة الخماسية التي وضعته كانت رئيستها أميركية، والعضو الذي حرّر مسودة مشروعه كان فرنسياً، أما باقي الأعضاء، والذين انتموا إلى كلّ من الصين، والهند، ولبنان، فكانوا جميعاً من أصحاب النزعة الليبرالية الغربية. والجدير ذكره أيضاً أنّ العراق كان من عداد الدول غير الغربية، والتي صوّتت لصالح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أنّ ذلك لم يكن يعني تجاوزاً لمسألة الخصوصية الحضارية، ذلك أنه أبدى تحفظاتٍ كثيرة على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتي انضم إليها في 13 أغسطس/ آب 1986.