مسلسل كوميدي واقعي
كان بطلُ سيرتنا، أبو عناد جلد الضفدع اللميع، الذي لقب نفسَه "ملك الدَيْن والاقتراض"، يحكي لي فصول مآسيه المضحكة بالتتالي، كما لو أنها مسلسل كوميدي واقعي.
أخبرني، ونحن جالسان في مقهى الريحاني، أنه حصل، بعد جهد جهيد، على قرض من مصرف التسليف الشعبي، بالفعل، وكان مبلغ القرض يكفي لتسديد ديونه كلها، ولكن..
قلت له: إن كلمة السر في الإبداع القصصي هي كلمة (ولكن)، فلو أنك أخبرتني أنك قبضت مبلغ القرض، ووزعته على الدائنين، لانتهت القصة.
- قصصي لا تنتهي، يا أستاذ، وأنا لست من الغباء لكي أوزع مالي على الذي يسوى والذي لا يسوى، وأقعد على الأرض يا حَكَم! ففي جلسة قصيرة مع نفسي، وبينما كان كيس النقود التي قبضتها من البنك مستلقياً في حضني، تخيلتُ أنني وزعته على الدائنين، وعدتُ، بعد ذلك، إلى أيامي الخالية؛ أمشي في شوارع إدلب، بجيبين فارغين، واستعداد دائم لتلبية دعوة مَن يدعوني إلى طعام، أو إلى فنجان قهوة، ولا أستطيع أن أدعو أحداً، بسبب الطفر. إنها علاقة مختلة، أليس كذلك؟
- بلى.
- المهم أنني، بعد طول صفن، وتفكير، خطرت لي فكرة بارعة، تتلخص بكلمتين اثنتين، هما: التفاوض والتنازل. أنت تعلم أن مندوبي الدول المتحاربة يجلسون، بعد وقف إطلاق النار، إلى طاولة مستديرة، ويتفاوضون، وكل طرف يقدم التنازلات التي يستطيع تقديمها، حتى يصلوا، في المحصلة، إلى تسوية.. ثم يوقعون معاهدة تُنهي الحرب.. وأنا، فور اختمار الفكرة في عقلي، قررت الحصول على تسوية، فجئتُ إلى المقهى، وطلبت من أبو مريد أن يَجمع لي الدائنين الكرام، مرة أخرى، لأجل التفاوض، وأبديت استعدادي لأن يكون الشاي على حسابي، وأما الأركيلة (الشيشة) فعلى حساب مَن يدخنها.. وبما أنني إنسان ذكي، وحربوق، فقد اتفقت مع أبو مريد على سعر مخفض لكل كأس شاي يُستهلك في الجلسة، لأن الاستهلاك بالجملة غير المفرق، ثم إن تكلفة الشاي بشكل عام قليلة، والمثل يقول "مَن يشارك الماء لا يخسر". فما رأيك؟
- حتى الآن، شغلك حلو.
- الله يخليك يا أبو مرداس. المهم؛ في موعد الاجتماع، وبعد السلام، والتحيات، والسؤال عن الأهل والحبايب، قلت لدائنيَّ الكرام إن حسابات السوق، عندي، لم تطابق الصندوق، فهذه البنوك الحقيرة، الرَبَوية، لا تعطي للناس قروضاً لأجل سواد أعينهم، بل إنها تُخضعهم للفوائد المركّبة، يعني مبلغ الـ2655 ليرة سورية الذي قبضتُه، سوف أسدده على 48 قسطاً، يبلغ مجموعها 4000 ليرة! وهنا رققتُ صوتي، وصرت أرَقِّصُهُ مثلما يفعل المطربون السرسرية الذين يغنون في الملاهي الرخيصة، وقلت:
- يعني أنا، من أجل أن أسدد ديونكم، خرب بيتي، وتعرضت لابتزاز، ولكنني، مع ذلك، أطمع بتعقلكم، وتفهمكم للظروف الاستثنائية التي يمر بها أخوكم أبو عناد جلد الضفدع اللميع!
عندما انتهيت من كلامي، ساد الصمت، ووجدت أعينهم متجمدة، ينظرون إليّ والدموع متيبسة في مآقيهم، منتظرين أن أضيف شيئاً، ولكنني لم أقل أي شيء. وفجأة، وقف أبو عمران الحجي، وقال:
- أخي أنا لي بذمتك 25 ليرة، سامحتك بها كلها.
وغادر المقهى. وأما أنا فقد أشرت بيدي إلى أبو عمران، وقلت:
- هذا هو الكلام المفيد. وهذا هو الموقف المشرّف الذي يفيد الأمتين العربية والإسلامية اللتين ينتمي إليهما أخوكم أبو عناد.
غضب أبو برهوم، ووقف، وقال: رُحْ، يا جلد الضفدع اللميع، خَيّطْ بغير هذه المسلة، إذا كنت قد دعوتنا لتخطب علينا مثل البعثية، وتجعلنا نتنازل عن حقوقنا، فأنت غلطان، وعليّ الطلاق بالثلاثة، أنا "أشبقك" كفاً على خدك الأيسر، أجعل وجهك ينحرف إلى الطرف الأيمن، وأخلي أسنانك تطير في الهواء، حتى تلفظ كلمة (خبج)، بدلاً من (خبز).
قلت له: إنك تستبق الأمور يا أخي أبو برهوم، فضربُ الكفوف في مشاكل كهذه، يأتي في مرحلة متأخرة. أنت تفترض الآن أننا سندخل في حرب، وهذا افتراض خاطئ، فأنا جئت إلى هنا لكي أصالح، وأجعل السلم هو السائد في مدينة إدلب الخضراء.. والتوصل إلى السلم، يا إخوتي، يحتاج إلى أن نفهم العادات العربية الأصيلة على طبيعتها، ففي حالتنا هذه، إذا أردت أنا أن أكون كريماً، لن أستطيع ذلك، لأنني الطرفُ المديون، العاجز عن بذل أي شيء، أما أنت فمنتصر، ومخير. مثلاً: لك بذمتي 80 ليرة، تستطيع أن تتنازل عنها كلها، أو نصفها، أو ربعها، ولكن، لو قلتَ لي: أريدها كلها على داير مليم، فسنعلق أنا وأنت في مشكلة، قد تتطور إلى الضرب بالكفوف كما تفضلت، و"تشبقني" كفاً تجعلني أقول عن الخبز (خبج)، ووقتها سيتعاطف معي الناس، ويتهمونك بالبخل.. سأحكي لك، يا خيي أبو برهوم، ولهذه الوجوه النيرة، حكاية تلخص ما قلتُه عن الطرف الغالب، المقتدر، المنتصر، الكريم، والطرف الآخر، المقهور.. ما رأيك؟
قال لي أبو برهوم، وقد هدأت أعصابه:
- الشيء الوحيد الذي يجعلنا نصبر عليك هو حكاياتك الرائعة. تفضل.
- الله يزيد فضلك. يا سيدي كنا، ذات مرة، نتعشى أنا ووجه الخير هذا، صديقي أبو سليمان، في مطعم العندليب بحلب، ننظر بأعيننا إلى صحون اللحوم المشوية التي يحملها الكراسين إلى الطاولات المجاورة لنا، ونبلع ريقينا بصعوبة، لأن النقود التي نحملها لا تكفي لأكثر من طلب صحن حمص، وصحن سلطة، وصحن بزر بطيخ، حصراً.. وفجأة، جاء الفرج. دخل رجل مقتدر، مثل حضرتك يا أبو برهوم، توسط المكان، وتكبش مثل الديك الرومي، وأعطى إشارة لمرافقه، فقال المرافق:
- يا شباب. أخوكم أبو مصطفى، كما تعلمون، تزوج منذ عشرين سنة، وكانت خلفته، بمشيئة الله تعالى، كلها بنات، واليوم رزقه الله بغلام يفتح العين من العمى.
قال الرجل الذي اسمه أبو مصطفى:
- نعم. وقد سمّيته مصطفى على اسم المرحوم والدي. وبهذه المناسبة، كل زبائن مطعم العندليب الآن على حسابي!
شعرنا، أنا وأبو سليمان بسرور غامر، ووقفتُ أنا فوراً، وصرت أوبخ كراسين المطعم، قلت لهم (باللهجة الحلبية):
- إشو هالخدمة التعبانة خيو؟ من ساعة طلبنا أنا وأبو سليمان صحن شقف، وصحن كباب، وصحن كبة ع السيخ. فينُنْ؟
ووقف أبو سليمان وقال: إذا بقيت الخدمة هيك أنا بدي أشوف مدير المطعم.
هل تعرف ما هي الحكمة من هذه القصة، يا أخي أبو برهوم؟ الحكمة أن الله تعالى لم يرزق السيد أبو مصطفى غلاماً لأجله هو، أو لكي يحفظ اسم المرحوم والده، بل ليجبر خاطرنا بسيخين كباب وشقف، أنا وهذا الصديق المنحوس المحترم أبو سليمان!