مسن وخرفان ويلحق الأعراس
اتصل بي أبو سعيد قبل موعد اتصاله المعتاد بيومين، وقال إنه سمع حكاية الدعوة التي وُجهت لصديقنا "أبو عمر" لحضور عرس في بلدة أريحا، من قبل، مراراً، ولكنه شعر، حينما سمعها مني، أنه يسمعها للمرة الأولى، وفسر ذلك بأن أساليب رواة الحكايات يختلفون من واحد لآخر، فكل واحد منهم له أسلوبه الخاص.
- أنت، يا أبو سعيد، تمدحني بشكل غير مباشر.
- نعم، وأنا أفسر الطرافة في أسلوبك بأنك، عندما تباشر برواية حكاية، تكون قد نسيتَ بعض تفاصيلها الأصلية، فتلجأ إلى ترميمها، بأن تضع بدلاً عنها تفاصيل أخرى، من اختراعك.. أنا، مثلاً، لم أسمع من قبل أن أبو عمر، بعدما تلقى دعوة "أبو كمال طشو" لحضور العرس، أسرع إلى داره، وعقد اجتماعاً عائلياً، وأعطى لزوجته وأولاده تعليمات صارمة بألا يردوا على الهاتف عندما يرن، أو أن يفتحوا الباب حينما يقرع، إلا بإذنه، وإذا ارتكب أحدُهم خطأ، ورد على التلفون، أو فتح الباب، فعليه أن يُنكر وجود "أبو عمر" ليس في الدار فقط، بل وفي مدينة إدلب، وطلب منهم أن يقولوا إنه سافر إلى.. إلى.. إلى الحسكة. لماذا الحسكة؟ لأنها تبعد أكثر من خمسمئة كيلومتر عن إدلب، فإذا كان طارقو الباب، أو المتصلون، يفكرون بإحضاره (موجوداً) لأجل حضور عرس، فلن يستطيعوا ذلك بسبب بعد المسافة.. وهذا القرار سيبقى ساري المفعول حتى صباح يوم السبت. بالمناسبة يا أبو مرداس، العرس ينتهي بعد منتصف ليل الجمعة بقليل، فلماذا مدد أبو عمر الحظر إلى يوم السبت؟
- أم عمر، الله يحرسها، سألت أبا عمر السؤالَ نفسه، فقال لها: أنا مددت المهلة من باب الاحتياط. وهنا، دخلت الأسرة في نقاش من نوع آخر. حاول الابن الثاني، مروان، إحراج أبيه، فقال له: نحن فهمنا الدرس، يا بابا، واستوعبناه، ولكنك تُناقض نفسك، فأنت، منذ أن وعينا على الدنيا، تنهانا عن الكذب، والآن تطلب منا، صراحة، أن نكذب!
من يسمع هذه الرواية، يا أبو سعيد، سيعتقد أن هذا السؤال سيربك أبا عمر، ويجعله يغمغم بالكلام، ولكن هذا لم يحصل، وسرعان ما دخل أبو عمر مع ابنه في نقاش موضوعي، فقال له إن بعض الحالات لا يمكن التحدث عنها من خلال ثنائية (الصدق - الكذب) المبسطة، ففي حالتنا أنت أمام احتمالين، الأول أن يُقرع الباب، ويأتي صديقي أبو نعمان مثلاً، ويسألك: الباب هون يا مروان؟ فإذا توخيت الصدق وقلت له: نعم عمو. تفضل. سيدخل مثل "الهايشة"، ويسحبني من يدي مثل رجل محكوم بالإعدام، ويُخرجني إلى الزقاق، حيث سيارة العرس موجودة، والدربكّة تقرع، وباقي أفراد الشلة يغنون الله يساور دوز دوز هيي، ويقف أبو سومر ويصيح موال:
الدار ما هي لِنا
الدار للي بناها
بناها كبيرنا أبو عمر
وبفرده حماها
وهذا الحكي، بحد ذاته، كذب، فأنا لم أبنِ داراً طوال حياتي، ولولا جدك المرحوم الحاج عمر لوجدتَنا الآن جالسين في بيت شعر منصوب على البيدر الشرقي، ويقول أبو سومر (بفرده حماها)، وأنا، يشهد الله، بحياتي ما اشتريت فرداً، ولا أطيق أولئك الذين يضعون فرودهم على زنانيرهم ويمشون في الشوارع بطريقة (خصلة وعنقود والباقي فراطة)، وأنا، أصلاً، أتهرب من حضور الأعراس بسبب إطلاق النار، فكيف أحمل فرداً؟ هل تعرف أبو نزار الهيجي؟ قال مروان: لا أعرفه. قال: يا سيدي هذا واحد منفاخ، ولكنه ظريف، تصور، كان يحكي لنا، مرة، عن عرس في قرية "باتنته"، وحلف لنا يميناً معظماً على أن الرصاص الذي أُطلق في العرس يكفي لتحرير متر مربع كامل من الجولان المحتل! المهم؛ يا ابني مروان، تخيل، بعدها، سيركبونني في السيارة، ونذهب إلى أريحا، لنفرح بزواج الشاب كمال طشو، ابن صاحبنا أبو كمال، وخلال العرس، فرضاً، يصيح أحد الحاضرين موال ضَرْب.
- عفواً أبي، ماذا يعني (موال ضَرْب)؟
- يعني أن فيه كلاماً مبطناً، يستفز أفراد بوطة، (أي جماعة) جالسة بالقرب منه، ومثال ذلك الموال الذي يقول:
يا أصوراً لا تَخَفْ
راعي المخيفةِ وَطَسْ
من الخوف لا ترتجفْ
بالليل تلقى الفَسَسْ
فتحمرُّ أعينُ الشباب في المجموعة (البوطة) المجاورة، ويُنهضون مؤخراتهم عن الكراسي نصف نهضة، ويسألون الذي صاح الموال: مَن تقصد يا قبضاي؟ فيقول: أنا لا أقصد أحداً، مَن كان فيه شوكة تنخزه. ووقتها يبدأ الضرب بالبكوس، والترافس بالأرجل.. ولأن الكراسي تصبح شاغرة، فإنهم يستعملونها كسلاح، فما ترى، أنت الخائف المذعور، إلا الكراسي وهي تتطاير في الهواء، وتنزل على الرؤوس، والرجال الحاضرون الذين لم يستفزهم موال الضرب، مثلي، ستدفعهم غريزتُهم للهرب، ومن شدة التدافع عند الباب الخارجي، يخطر للإنسان أن يصعد الدرج إلى السطح، ويقفز إلى الزقاق، فإذا كان يعاني من ترقق العظام، مثلي، فلا بد أن تنكسر إحدى ساقيه، ويقعد في مكانه وهو يصيح ويستجير، فإذا جاء أناس أوادم، وأرادوا مساعدته، فإنهم سيسعفونه إلى أقرب مركز طبي، في مستوصف أريحا مثلاً، ولكن الإمكانات هناك ضعيفة، فيضطرون لأن يطلبوا سيارة إسعاف من إدلب، وبلا طول سيرة ينقلونه إلى إدلب، ومكتب القَبول في المستشفى الوطني بإدلب يسجل اسم المصاب قبل إدخاله إلى قسم الجراحة العظمية، وأنت، يا مروان، تعلم أن ابن عمك سليمان موظف في مكتب القبول، فوقتها سيندفع نحوي، ويسألني: عمي أبو عمر؟ خير إن شاء الله؟ كيف كسرت ساقك؟ فأخجل، وأكذب عليه، قائلاً إن زوجة عمك أم عمر كانت تشطف أرض الديار بماء وصابون، وأنا تزحلقت ووقعت، المهم؛ وبعد أن ينتهي الطبيب من تجبير قدمي، أمكث بضعة أيام في المشفى، ثم أخرج إلى الدار، وتنتشر السالفة في المدينة، وأصدقائي الذين أخذوني إلى العرس سيحكون الحقيقة، ويقولون إنني كسرت في العرس، ووقتها كل الناس سوف يحكون علي بالعاطل، ويقولون: أليس عيباً عليه، وهو رجل مسن، أن يذهب إلى الأعراس؟
قال أبو سعيد: يا إلهي، ما هذا الخيال الواسع الذي يمتلكه أبو عمر؟
- خياله واسع وخصب. وقد توصل مع أفراد أسرته، بعد هذا النقاش، إلى أن الواحد إذا كذب كذبة صغيرة، وقال لمن يسأل عنه إنه مسافر في الحسكة، أحسن من أن يكون صادقاً وتنكسر رجله ويقال عنه إنه شيخ مسن، وخرفان، ويلحق الأعراس!