مشاجرة مع صحن الخبّيزة
سيرة الظرفاء (3)
في الاتصال السابق؛ حكينا، أنا وأبو سعيد، عن ولع بعض الناس في إدلب بالطعام، وعن المراهنات التي كانت تُعقد في السوق، حول مَن يستطيع أن يأكل مِنَ الطعام أكثر من البشر العاديين.
وكانت تلك المراهنات تبدأ من إقدام رجل على التهام خمسة أقراص من الشعيبيات، وتطورت، مع الزمن، فصار أحد الشرهين يراهن على أنه يأكل محتويات صينية شعيبيات كاملة، وفيها حوالي 25 قرصاً، كل قرص يكفي لإشباع إنسان طبيعي.
علق أبو سعيد، في اتصاله البارحة، على ذلك بقوله:
- كنا نحكي عن رجل يراهن على أنه يأكل كمية كبيرة من الكنافة، أو الشعيبيات، أو الهيطلية، مقابل مبلغ زهيد من المال، خمس ليرات، أو عشر ليرات في الحد الأقصى، وأحياناً لا يتعدى الشرط أن يدفع المُرَاهِن الخاسر ثمن الكمية المأكولة فقط.. وهذا أمر طبيعي، لأن الحلوى لذيذة، والنفس تشتهيها، ولكن؛ أن يراهن أحدُهم على أنه يأكل (كيلو شعير)، مقابل الحصول على عشر ليرات سورية، فوالله هذه جديدة!
- بصراحة يا أبو سعيد، أنا سمعت بحكاية الرجل الذي التهم كيلو شعير، ولستُ متأكداً من صحتها.. ولكنني سأحكي لك، الآن، عن رجل فقير، من قرية البلاطة، اسمه "أبو سمعو"، كان يعيش مع زوجته في دار صغيرة، وليس لديه واردات مالية سوى مبلغ صغير يأتيه شهرياً من ابنه المتطوع في سلك الشرطة. وكان أبو سمعو رجلاً مبذراً، لا يؤتمن على أي مال، ولذلك اضطر أن يعتمد على زوجته في تأمين الطعام له ولها. وأم سمعو، التي تولت هذه المهمة الصعبة، صارت تبالغ في التقتير والبخل، لكي يكفيهما المبلغ الصغير حتى نهاية الشهر، لذا دأبت على تأمين معظم مستلزماتها من المؤن المتوفرة في البيت (زيت وعدس وبرغل ودبس بندورة ودبس رمان ودبيركة...)، بالإضافة إلى أصناف نباتية موجودة في الطبيعة، وخاصة في فصل الربيع، فكانت تخرج، في الصباح الباكر، إلى المروج، والبيادر المعشوشبة، تتسلح بسكين قاطعة، وتبحث عن الخبيز، والسلق، والسلبين، المختبئ بين الأعشاب، تقتلعه بسكينها، وتستمر في عملها حتى تجمع ما يكفي لطعامهما، وتطبخ، في كل يوم، طبخة (عشبية) مختلفة عن اليوم السابق.
- بصراحة، يا أبو مرداس، تناول الأعشاب المطبوخة بشكل يومي أمر لا يطاق.
- معك حق. وفي ذات يوم، أمسكها زوجها من يدها، وقال لها: تعالي معي. واستمر يسحبها حتى وصلا إلى مكان معشوشب أخضر، يرعى فوقه كديش مربوط برسن، والرسن ينتهي إلى سكة مثبتة بالأرض، وقال لها:
- أنتِ، يا أم سمعو، تضيعين وقتك في طبخ الحشائش وتقديمها لي يومياً، الأفضل، برأيي، أن تدقّي لي سكة، بجوار هذا الكديش، ونرعى أنا وهو من هذه الأعشاب حتى نشبع!
ضحك أبو سعيد، وقال: حلوة.
- هناك حكاية لا تقل عنها حلاوة. يا سيدي، كان "أبو زكريا آغا الحلبي" صاحبَ أملاك في قرية البَلَّاطة، وكان يعيش وأسرتُه في "حي السبيل" بحلب، ولا يأتي إلى البلاطة إلا في فترة جني المحاصيل. ولأجل حراسة أراضيه، ومتابعة أعماله الزراعية، وظف عنده فلاحاً قوياً وأميناً اسمُه "أبو حمدو".. وكان أبو حمدو رجلاً ظريفاً جداً، وعنده فلسفة خاصة بالطعام، ملخصها أن الفقراء من أهل القرى يأكلون طعاماً له منفعة وحيدة، وهي مساعدة الإنسان على الاستمرار في العيش، ولا يموت من الجوع، ولذلك أطلقوا عليه صفة: (قوت الـ لا يموتْ)، وأما أهل المدن، وبالأخص الأثرياء المقتدرون، مثل أبو زكريا آغا، فيأكلون ما لذ وطاب من المأكولات، أو، كما يقولون في الكلام الدارج: جَنَنِي ومَنَنِي..
عند هذه النقطة التمعت في عقل أبو حمدو تلك الفكرة العبقرية، وهي أن أفراد أسرة أبو زكريا يصيبهم الملل من كثرة تناول الدسم والحلوى والفواكه، ولذلك يشتهون أكلة تافهة وفقيرة مثل "الخبيزة"، ويقولون عن هذا الأمر (تغيير شكل)، وأما الفقير، الجوعان، الفلتان، فمن كثرة ما يأكل الخبيزة يصبح حلم حياته أن يحظى بأكلة دسمة، عامرة بكراديش اللحم. هنا، قال أبو حمدو لنفسه، نستطيع أن نجري "تبادل مصالح"، أنا أسافر إلى حلب، وأهدي لأسرة أبو زكريا كمية من الخبيزة، وأحاول أن يكون وصولي إلى دارهم قبيل موعد الغداء بقليل، ووقتها سيعزمونني على الغداء، فآكل من طعامهم الدسم، وأنبسط.
- والله يا أبو مرداس هذا أبو حمدو واحد ألمعي!
- نعم، وقد استمر يجري على هذه العادة زمناً طويلاً، وفي فصول السنة كلها.. ففي الربيع يهديهم خبيزة، وفي الصيف تيناً وعنباً، وفي الخريف زيتوناً أخضر، وفي الشتاء قطرميز دبيركة (لبن مطبوخ ومنشف)، وهم يقدمون له الطعام، فيأكل ويبلغ قمة السعادة... وهكذا حتى وقع ذلك الفصل الجميل، المضحك الذي سأرويه لك الآن.
- هات لنرى.
- المصادفة لعبت دوراً عجيباً في وقوع أحداث ذلك الفصل. فأم زكريا زوجة الآغا، في صباح ذلك اليوم، كانت تنشر الغسيل على الشرفة، فسمعت صوت رجل ينادي على الخبيزة، نظرت إلى الأسفل فوجدت فلاحاً يجر حماراً عليه خبيزة طازجة، خضراء، شهية، فنزلت، واشترت منها ما يكفي لطبخة لأسرتها، وهي لم تكن تعلم بقدوم أبو حمدو، فلما جاء، ومعه كيس مملوء بالخبيزة، قالت لنفسها: أضعها في الثلاجة وأطبخها خلال الأسبوع القادم. المهم، عندما صار وقت الغداء، سكبت لأبو حمدو كمية من الخبيزة المطبوخة، ووضعتها في وعاء نحاسي، وقدمتها له، وخرجت.. بعد خروجها بقليل، سمعت صوت أبو حمدو يصيح وكأنه يتشاجر مع أحد ما، فاقتربت من الغرفة، وحاولت أن تختلس البصر من طرف الباب الموارب، فرأته يضرب الخبيزة المطبوخة بقبضته، ويقول لها:
- لاحقتيني لهون؟ يخرب ديارك. أيمتى بدي أخلص منك؟ آ؟ إنتي ما بدك تحلي عني؟!!