"مش غلط"
تقول فيروز في واحدة من أجمل أغانيها "تاري الدوا حبك وفتش عالدوا"، ويقول كاظم الساهر في أغنيته "قبلتها ألفاً ولم أتعب"، وغنى الفنان اليمني محمد مرشد ناجي قصيدة مليئة بالغزل الساخن، قال في أحد أبياتها "وقبلتها تسعاً وتسعين قبلة.. مفرقة في الخد والكف والفمِ...".
حظيت تلك الأغاني بجماهيرية كبيرة لسنوات كثيرة متتالية، ولو تأملنا الشعر الحميني (الشعبي) اليمني المغنّى، لوجدنا أنّ الغزل الجريء يتفاوت بين التصريح والتلميح، ويفوق كلّ ما سبق، حيث إنّ الغناء اليمني أكثر جرأة في كلماته وغزله في المائة عام الأخيرة. وهنا ثمّة مفارقة لطيفة؛ لأنّ المجتمع يعدّ من أكثر المجتمعات محافظة وتديناً، لكن بالمقابل تتميّز أغانيه بجرأة متفردة، وتجد قبولاً واسعاً، ويتغنّى بها الناس في مناسباتهم الاجتماعية، وسهراتهم العائلية بلا حرج من كلماتها، فما الذي جدَّ في المجتمع؟
صارت المجتمعات العربية في الآونة الأخيرة تتحسّس من كلمات الأغاني، وتجرّمها لأنّها ترى فيها دعوات صريحة للفجور والانحلال الأخلاقي، وتهاجم كثيراً ما يبتدعه جيل الشباب، واصفة إياه بالانفلات الأخلاقي والديني، وما هو أبعد من ذلك. فهل صار جيل اليوم أكثر "انفلاتاً" وتواكباً مع الانفتاح العالمي والحريات اللامنتهية؟ أم أنّ المجتمعات ذاتها تتراجع إلى الوراء؟!
إنّ كلّ حقبة زمنية لها نجومها، أمّا جيل اليوم فلم يتفرّغ لاحتياجاته (ومنها الاحتياجات الموسيقية والفنية عامة) سوى من لا يحظون بقبول مجتمعي كافٍ. وفي الواقع، لم تعد القصيدة العربية التقليدية تواكب تجارب الشباب الحياتية عامة، والعاطفية على وجه الخصوص، فلا الكلمات المعجمية ولا التراكيب العتيقة تُغري أذواقهم وميولهم الموسيقية، ولا إيقاع حياتهم السريع الذي جاء الإيقاع الموسيقي السريع والصاخب نتاجاً طبيعياً له، ولا الكلمات السريعة تحمل معاني عميقة؛ بل تبدو كأنّ الكاتب بصقها إلى أذن الملحن، الذي قام بدوره بركلها في وجه قضاة المجتمع وحرّاس فضيلته، الذين يرتعشون بدورهم لمحاربة كلّ نتاج جديد يلامس تجارب الجيل المعاصر، ويشهرون سياطهم لزجرِ كلّ ما هو جديد دون الالتفات إلى متغيّرات الحياة.
الإبداع الفني في الكتابة يروّض الذائقة الجمعية، ويجعل المشاعر والرغبات أكثر قبولاً
في الأمس، صدرت أغنية "مش غلط" في محاولة لخلق الجديد؛ إلا أنّها جاءت في قالب لحني تقليدي، لا يتماشى مع الجمهور الذي لم يستسغ كلماتها الهزيلة فنياً، والتي لا تمت إلى الشعر بصلة. بل وما أضعف موقفها من حيث دغدغتها رغبات المراهقين ومعارضتها مبادئهم في آن، فكانوا أوّل من عارضها بجملة "أترضاها لعرضك؟".
وما جعل أغنية اليوم محطّ نقمة المجتمع وسخطه، ليس لابتذال كلماتها، ولا معارضتها للعادات والتقاليد، ولا الدين؛ بل لخلوها من لمسة فنية تُشعل فتيل الأحاسيس، فهي لا تلامس شعوراً، ولا توّلد تعاطفاً، ولم يجرَ تغليفها، لا بأداء، ولا بلحن شبابي ينسجم مع طبيعة المجتمع الذي يتوق في الأساس لسماع المزيد من الأغاني التي تعزّز شعوره بالخيبة العامة.
بدلاً من تفريغ استيائنا بانتقاد الشباب والهجوم الشرس عليهم، الأجدر بنا ملامسة احتياجهم، وتشجيعهم على الكتابة الإبداعية، والغناء والرسم والنحت والفن، لا سيما مع انعدام فرص العمل، وغياب إمكانية الترفيه في الوطن العربي عامة، فالفن انعكاس للمجتمع ومعبّر عن وعيه بحقبه الزمانية والمكانية.
أخيراً، يمكن القول "مش غلط" كتابة الحب ولا خوض تجاربه، لكن "الغلط" أن نعرّيه من جماله وقدسيته بالتعابير الفجة الفظة. إنّ جمال الحب في الهمس عنه، والإيحاء به، كما أنّ الإبداع الفني في الكتابة يروّض الذائقة الجمعية، ويجعل المشاعر والرغبات أكثر قبولاً.