مصائب صغيرة
ليس هناك مرحاض.
إنها القرية، أشجار تفاح، وخوخ، ورمّان، وعصافير، ودجاج، وبط، وطواويس، وخيول تصهل صهيلاً رائعاً... لكن، ليس هناك مرحاض.
كنت قد نجحت تواً في الامتحان، مزهواً بنتيجتي، وقد أرتها أمي للجميع مفتخرة بي. قصدنا محطة "الكيران" وركبنا "الكار" (الحافلة) في اتجاه "الرماني". سننزل قبل ذلك، بالضبط في "بونجاجة"، حيث ستستقبلنا الحقول الشاسعة والنسيم العليل وأزهارُ وورود الربيع.
أرتدي ثيابي الجديدة، وأمشط شعري إلى اليمين كأيّ مهذب مجتهد، وأمسك جيداً بجلبابِ أمي كي لا أتوه. بعد النجاح، ليس هناك سوى العطلة والحرية التي لا نهاية لها رغم أنها تمرّ سريعا. سأركب على ظهر الجحش الصغير وأقوده بمفردي إلى البئر، آكل التين الهندي بعد صيده بقصبة من الصبار، أجمع "الجلبانة" (البازلاء) من الحقل في قميصي، وأشرب اللبن ساخناً من فم "الشكوة" (يُوضع فيها اللبن وتصنع من جلد الماعز) أو من ضرع العنزة.
داخل الحقيبة الأديداس التي تحملها أمي، هناك كرة أربعين، صغيرة، حمراء وجديدة، لم أركلها فوق التراب بعد، و"ولكمان" معطل و"تيو" أصفر مطاطي من قمامة مستشفى ابن سينا، قسم العمليات الجراحية الخطيرة لصناعة "جباد".
وصلنا ساعة العصر. ذهب "الكار" عبر "الشانطي" غير المّرصّف، تاركاً لنا فقط الهدير وبعض الغبار، ثمّ الصمت المطبق. بدونا لهم من بعيد وسط حقول ومسارب صغيرة ملتوية، بعد أن توغلنا نصف ساعة، بعيدا عن "الشانطي". رحبوا بنا، قبّلوني وعانقوني كعريس عائد من شهر عسل، بينما كنت حذراً من كلب أسود ذي عينين غدارتين، حاول تشمّم حقيبة أمي.
رحبوا بنا، قبّلوني وعانقوني كعريس عائد من شهر عسل، بينما كنت حذراً من كلب أسود ذي عينين غدارتين، حاول تشمّم حقيبة أمي
الطقس رائق للغاية ومرتخ، والمدينة بصخبها، وضيقها، وإيقاعها السريع، قد بدت الآن بعيدة جداً. في رمشة عين، أصبح الزمن شيئاً آخر، ميتاً تقريباً، له إيقاع دجاجة تنقر الزرع بتقاعس، و"كرويلة" (عربة يجرها الحصان) صدئة مركونة تحت شجرة تين عجوز في ظلّ مضاعف، وكلاب من دون فصيلة مستلقية على بطونها، تراقب الشاردة والواردة بعيونها فقط، ودون معنى واضح.
خلعت أمي جلبابها وانخرطت في حديث حميم مع خالتي رقية ذات الابتسامة الاحتفالية الدائمة، جالستين على "حنبل" (يُصنع من بقايا الأثواب) قديم في الخارج. قدما أمي محناتان حديثا بالسكوتش، وفمها مسوّك وعيناها مكحلتان، بينما قدم رقية تنتعل بوط "كواتشو"، مثقوباً، وتحمل في يدها عصا "جبوج" مقلّمة جيداً بسكين، وتضع على رأسها درّتها بعد أن فكتها كي تمنح لعنقها العرقان أن يغنم كلّ نسيم العصر. لقد كانت داخل الزريبة تنكس للشياه ساعة وصولنا، ونباحِ الكلاب في إثرنا.
فوزية التي لم تبلغ من العمر العاشرة بعد، ولم تذهب قط إلى مدرسة. أحضرت "شكوة" مليئة باللبن أكبر منها، مدتها لأمها رقية بخجل، حانية رأسها ومخفية عينيها، بقصة شعرها "الشينوي" (الصيني) الناعم المحروق بالشمس وانسحبت راكضة عائدة إلى الداخل، تطلّ عليّ من هناك من عتمة باب "الكشينة" (المطبخ) الشبيهة بفوهة بركان، بخجل وفضول وسعادة.
أفرغت لنا رقية اللبن في "غراف" بلاستيكي برتقالي كبير، غراف واحد للجميع، شربت أمي حتى روت عطشها، وقالت: "اللله"، ثم مدّت لي "الغراف" العملاق لأشرب. شربت ناظراً ببلاهة إلى أعماقه، وإلى الإضاءة البرتقالية المشعة فوق بياض اللبن وفقاعاته الصغيرة.
"ضعي الغلاي على البوطة لنعمر براد أتاي للغاليين يا فوزية"، صرخت رقية، مائلة بعنقها جهة الباب. وهنا، شعرت بصريصرة (إسهال) مفاجئة تتصيّد أمعائي بعد وصول اللبن إليها.
قصدت أمي هامساً في أذنها: أين المرحاض؟ أشارت لي بيدها إلى الخلاء. طبعا أشارت بيدها إلى الخلاء، فليس هناك مرحاض في هذه الجنة الخضراء اللا نهائية.
أصبح الزمن شيئاً آخر، ميتاً تقريباً، له إيقاع دجاجة تنقر الزرع بتقاعس، و"كرويلة" (عربة يجرها الحصان) صدئة مركونة تحت شجرة تين عجوز في ظلّ مضاعف
لم أستسغ الفكرة. تدخلت رقية: "در حول البيت فقط يا حبيبي واجلس هناك"، ثمّ واصلتا حديثهما الشيّق.
"الصريصرة" ألحت عليّ أكثر. ركضت إلى خلف البيت، ممسكاً بطني بيديّ. أنزلت سروالي وجلست. أصبح الآن الصمت مضاعفاً والتراب واضحاً جداً بتقاسيمه الدقيقة، فسمعت طنين حشرة، وشممت رائحة روث ماشية، ورأيت نملة تائهة عن الغار تحمل حبّة شعير وتتقدّم في اتجاه أفق فسيح لا نهائي البلاهة. لفحتني نسائم باردة، وأنا أتعصر، محاولاً طرد المغص والتكيّف مع هذه الطبيعة الجديدة، وهذا الطنين الميتافيزيقي لحشرات غير مرئية، وهذا الحدس البكر للعالم.
"الصريصرة" مجرد سائل شبيه بصلصة البيتزا الآسيوية. كلّ هذا لا يشكل مشكلاً كبيراً ما دام البشر منقرضون هنا تقريباً، وليس هناك صِبية الرباط من نسل الجن الذين قد يباغتونني جالساً هنا، عارياً ومؤخرتي الصغيرة عارية، وصلصة البيتزا تحتي كطباخ تنقصه المهارة. لكن مشاكل القرية يصعب التنبؤ بها. فبينما أنا منشغل بمصائبي الصغيرة هذه، والتي تُفقد النجاح طعمه، قصدني الكلب الأسود الغدّار، وقد جذبته رائحة البيتزا. هذا هو ما كان ينقص!
بمجرّد ما رأيته، انتصبت كنابض دراجة، وهربت باتجاه أمي، صارخاَ ومحاولاً رفع السروال، وهو ينزل والكلب يتبعني. كانت فوزية قد استغلّت غيابي، فقصدت حجر أمها، حين فاجأتهم عارياً، هارباً، مقهوراً، خائفاً من عضّة الكلب أكثر من خوفي من انكشاف عورتي. قذفت رقية عصاها في اتجاه الكلب ضاحكة، ففرّ بمذلة. رفعت سروالي، وقصدت ظهر أمي للاختباء خلفه من هذه الفضيحة الكبيرة.
"لا تخف. إنه يرحب بك فقط"، قالت رقية. "أعقد سروالك" قالت أمي. بينما قهقهت فوزية بأسنانها الصفراء، مرتعدة بكتفيها عند القهقهة كراقصة الأحيدوس. همست في أذن أمي: "أريد أن نعود إلى البيت حالاً". قرصتني قرصة جادة لأصمت، فصمتّ.
مدّت لي رقية "غراف" اللبن فشربت ما تبقى فيه، راغباً أن لا أخرج منه أبداً وجهي، حتى لا يراني أحد، بينما قهقهوا جميعاً بقسوة وسخرية طيّبة وعبيطة للغاية.
ظلّ في ذهني شيء واحد لم يبرحه، هو أن فوزية رأت "شيئي" وهو منكمش كحبة حلزون، بينما الكلب رأى مؤخرتي، ولن يكون هناك مرحاض أبداً طيلة خمسة عشر يوماً من العطلة الملغزة في هذه الجنة الفسيحة التي هرب منها آدم وحواء، ربما لأسباب مشابهة.