مصر.. الدولار وطريق النمو المتعثر
يشهد الاقتصاد المصري ضغوطًا متلاحقة تدفع لمزيد من القرارات الصعبة لتدارك أزمة لا مناص من تبعاتها، فبعد التقلبات السريعة التي شهدتها أسعار صرف العملات الأجنبية أخيرًا، تراجع عجز ميزان مصر التجاري غير النفطي بنحو 22.6 في المائة بنهاية العام الماضي، ليسجل 37.1 مليار دولار، متأثرًا بشح الدولار الذي هبط بالواردات وخفض عمليات الاستيراد بشكل كبير.
وفي ذلك السياق، أبرزت الإحصاءات الرسمية الأخيرة ضعف قدرة حكومة مصطفى مدبولي على تدبير الدولار، ما عطّل الإنتاج في كثير من المصانع المعتمدة على المواد الخام المستوردة، وزاد أسعار السلع والخدمات في الأسواق المحلية التي تعاني بالفعل من ارتفاعات قياسية غير مسبوقة.
وأخيرًا، تحرّكت الحكومة بعد الفوز الذي حقّقه الرئيس عبد الفتاح السيسي في ولايته الثالثة التي تستمر ست سنوات، لإصدار قرارات تسعى من خلالها لتدارك الأزمة عبر رفع أسعار الخدمات وزيادة تسعيرة الغاز والكهرباء والمحروقات، ضمن إجراءات يُراقبها صندوق النقد الدولي الذي يوجد فريفه حالياً في القاهرة لمناقشة المراجعتين الأولى والثانية لبرنامج الإصلاحات الذي يدعمه الصندوق عبر تسهيل بقيمة 3 مليارات دولار.. تلك القرارات التي صدرت أخيرًا، هي التي عجلت بالانتخابات الرئاسية قبيل موعدها، وذلك مخافة أن تؤثر على إقبال الناخبين وتُفقد المشهد الانتخابي زخمه التي اجتهدت الحكومة للخروج به على أكمل وجه، وكأنّها انتخابات حقيقية تعكس الديمقراطية والتعدّدية الحزبية التي تفتقدها مصر!
وبينما يعاني نحو 60 في المائة من المصريين جرّاء الأزمة الاقتصادية، يستعد الشارع الآن لخفض كبير في قيمةِ الجنيه الذي تجاوز الـ60 دولار في السوق الموازية، كما تستعد أسواق المال لرفع جديد في أسعار الفائدة، إضافة إلى زيادات جديدة قياسية لأسعار المحروقات والخدمات الأساسية التي تقدّم للمواطنين، وفتح لملف بيع الأصول الحكومية الذي يأتي على قائمة الأولويات.
لا تملك الحكومة المصرية برنامجاً محدّداً للتعاطي مع مقتضيات المرحلة المقبلة التي تعزّز أزمة اقتصادية مستمرة منذ ثورة 2011، وتزداد يوماً بعد يوم
التركيز الآن يتجه نحو الطريقة الجديدة التي ستتعامل بها الحكومة مع العملة المحلية التي يرى صندوق النقد أنّها مقدّرة بأعلى من قيمتها البالغة 31 جنيها للدولار في الجهاز المصرفي الحكومي. في مقابل ذلك، ترتجف أوصال الفقراء من تعامل السلطات مع التضخم الذي يهيمن على الأسواق والاستمرار في سياسة طباعة العملات التي بلغت في ظلّ الأزمة الحالية مستويات قياسية.
ووسط تزايد الديون المحلية والأجنبية التي كانت نتيجة حتمية للتوّسع في الاقتراض، لا تملك الحكومة برنامجًا محدّدًا للتعاطي مع مقتضيات المرحلة المقبلة التي تعزّز أزمة اقتصادية مستمرة منذ ثورة 2011، وتزداد يومًا بعد يوم.
حالة عدم اليقين التي يعيشها النظام المالي في ما يتعلق بأسعار صرف العملات عزّزت مخاوف المصريين في الخارج، ودفعتهم للامتناع عن إرسال الأموال لذويهم بالطرق الرسمية، وفي أثناء ذلك استعدّ التجار جيّدا وجنّدوا أفرادًا لهم في الخارج يجمعون لهم العملة الصعبة من الراغبين في التحويل إلى أسرهم، وذلك أفقد التحويلات عبر القنوات الرسمية نحو 30 في المائة، إذ انخفضت 10 مليارات دولار في نهاية أغسطس/أب مسجلة 22 مليار دولار.
تحويلات المصريين في الخارج لا تقل أهمية عن إيرادات قناة السويس التي انخفضت هي الأخرى متأثرة بأحداث الحرب في غزّة، بعد مساعي المصدرين لإيجاد سبل بديلة، سواء عن طريق الجو أو البر أو البحر، لإيصال بضائعهم إلى العالم حتى لا تتفاقم مشاكل سلاسل توريد الشحن البحري حول العالم. كما امتدّ تأثير الأزمة إلى القطاع السياحي وأثّر على أبرز المدن السياحية (شرم الشيخ والغردقة وغيرها)، الأمر الذي أفقد مصر المزيد والمزيد من الدولارات التي تتعطّش إليها البنوك لسدّ التزاماتها الخارجية.
الطريق إلى النمو لا يحتاج إلى اختراع "العجلة"، فنماذج الانطلاق الاقتصادي واضحة ولا تحتاج إلا التطبيق من المخلصين والمتخصصين
كانت هناك طرق عدّة لتنويع مصادر النقد الأجنبي في مصر، ولكن الحكومة اختارت الطريق السهل وابتعدت كثيرًا عن الآليات المستدامة التي تتلخص في الإنتاج والتصدير، ولم تهتم كثيرًا بنماذج ناجحة في دول مأزومة، ولكنها لا تعاني من أزمة عملة كالتي نعيشها، وبنغلاديش خير مثال، إذ أصبحت المصدر الرئيسي الثاني في العالم للملابس، بعدما باعت بما قيمته 34 مليار دولار من الملابس في الخارج في 2023، وهو ما يعادل 6 في المائة من صادراتها. وهنا لم يفكر الدكتور مصطفى مدبولي ومستشاروه في ذلك الاتجاه، ولم يقدّم تسهيلات وتشريعات تستقطب المستثمرين من الخارج، في مقابل ذلك ارتفعت أعداد المستثمرين الذين تخارجوا من السوق المصرية وضخوا أموالهم في دول الجوار، وهذا ما أكده رجل الأعمال الشهير سميح ساويرس عندما قال إنّه لا يستطيع العمل في مصر بسبب غياب الرؤية وتزايد حالة عدم اليقين.
الطريق للنمو واضح وصريح، والأوضح منه هو ابتعاد الحكومة بأغلب وزاراتها عنه، فالمطلوب خلال الفترة الراهنة هو العمل على وضع استراتيجية تستهدف جلب رؤوس الأموال، ووضع تشريعات واضحة لتعزيز الاستثمار الأجنبي بما لا يضر بالأمن القومي المصري، ويلبّي تطلعات المواطنين الاقتصادية، وتعزيز دور القطاع الخاص المصري ورفع نسبة مساهمته في الناتج القومي للبلاد.. وكما أوضحنا الطريق إلى النمو لا يحتاج إلى اختراع "العجلة"، فنماذج الانطلاق الاقتصادي واضحة، ولا تحتاج إلّا التطبيق من المخلصين والمتخصّصين.