مصر في صورتين
إنّ ما يجعلني زاهدًا في متابعةِ مواقعِ التواصل الاجتماعي، يتمثل بسطحيةِ تناول المواضيع فيها بوجهٍ عام، ولعلّ أبرز أشكال تلك السطحية تتجلّى في محاولة تنميط شخص، أو مجتمع، أو ثقافة معيّنة، في صورةٍ واحدة، يَفترض صانعها أنّها لخصت كلّ شيء، وأتت بما لم يأت بها الأوائل، فيتفاعل الناس معها بالترحيب الذي قد يصل إلى الإيمان والاعتقاد، أو بالنقدِ الذي قد يصل إلى السّبابِ والتخوين، وربّما التكفير.
لذلك تجد هناك من يتوجّه إلى بلدٍ كبيرٍ كمصر بالمدح والتمجيد، فيما يخصّ موقفها تجاه ما يحصل في قطاع غزّة، فيأتي بصورٍ للجرحى الفلسطينيين الذين يُعالجون في المستشفيات المصرية أو بصورِ الشاحنات التي تحمل شعار "تحيا مصر"، وهي تشق شوارع غزّة وسط الأنقاض، حاملةً المساعدات لأهلها المنكوبين، في حين تجد على الجانب الآخر من يريد أن يستفز المصريين بالسباب واللعنات، فينشر صور الجدار الفاصل على الحدود بين مصر وغزّة، أو صورة لتكدّسِ شاحنات المساعدات أمام معبر رفح، المُوصدة أبوابه أمامها، وخلفه الناس، يموتون جوعًا ومرضًا.
لا يستطيع منصف أن ينكر إحدى الصورتين، لكنه كذلك لا يستطيع أن يقبل واحدة منهما فقط على أنّها الحقيقة المطلقة دون غيرها، لذلك أحببت أن ألخص لكم المشهد في هذا المقال من خلال صورتين، لا صورة واحدة.
الأولى، هي صورة طبيب العظام الأشهر في مصر، الدكتور أحمد عبد العزيز، صاحب الـ 75 عاماً، المتخصّص في إصاباتِ الملاعب، وتحديدًا مفصل الركبة وجرّاح العظام الأوّل للاعبي فريق النادي الأهلي المصري (بحسب علمي)، والذي يحتاج من يريد أن يقابله من المرضى إلى أن يحجز موعدًا في عيادته قبل أشهر، هذا الطبيب يقف اليوم في أحد المستشفيات الميدانية بشمال غزّة المنكوبة وسط فريق طبّي ليجري عمليات في غاية الدقة والخطورة لمُصابي العدوان الصهيوني الوحشي.
تتجلّى أبرز أشكال السطحية في محاولة تنميط شخص، أو مجتمع، أو ثقافة معيّنة، في صورةٍ واحدة
هذا الرجل المسن الذي ترك عيادته ومرضاه وطلابه وحياته الآمنة المريحة، ذهب إلى أخطرِ مكانٍ بالعالم كي يؤدّي واجبه، وما يؤمن بأنّه رسالة الطبيب المصري الذي يؤازر إخوانه في محنتهم بكلِّ ما يملك، حتى إن كلفه هذا حياته. ولا يقولن لي أحد، إنّه في مكانٍ آمنٍ في غزّة لأنه أصبح واضحًا لكلِّ ذي عينين أنّه لا يوجد سنتيمتر مربع واحد آمن في غزّة، وما جرى لموظفي المطبخ العالمي من استهدافٍ إسرائيلي خير دليل على ذلك.
الصورة الثانية، هي صورة الدكتورة نعمت شفيق، صاحبة الأصول المصرية التي تحمل الجنسية الأميركية والبريطانية، والرئيس الحالي لجامعة كولومبيا، العريقة المصنّفة واحدةً من أفضل 20 جامعة على مستوى العالم، والتي كانت تشغل في السابق مناصب دولية مرموقة كنائب محافظ بنك إنجلترا ونائب المدير العام لصندوق النقد الدولي وغيرها من المناصب، ربّما تكون تلك الصورة مشرفة لأيّ مصري لولا موقفها من طلابها المتضامنين مع غزّة بفصل بعض منهم، واستدعائها الأمن لفضِّ اعتصام بعض آخر في حرم الجامعة، مما أدى إلى اعتقال ما يزيد على مئة طالب وطالبة، وازداد الأمر سوءًا بعد شهادتها أمام الكونغرس الأميركي، وتعهدها بفصلِ أيّ أستاذ يُتهم بمعاداة "السامية" أو يدلي بتصريح يتضامن مع غزّة!
أمام هاتين الصورتين، لا يستطيع أحد، سواء كان محبًّا أم كارهًا لمصر، أن ينكر إحداهما، لكنهما أيضًا لا تلخصان الموقف المصري من قضية غزّة، أو غيرها من قضايا الأمة، ولا يزال يستطيع كلّ أحد أن يأتي بما يريد من الصور "الحقيقية"، كي يثبت خيانة المصريين أو تضامنهم مع غزّة، وهذا شأن بلد كبير، وعريق كمصر، مصر التي تمتد حضارتها عموديًّا في أعماق التاريخ، وتؤثر أفقيًّا على امتدادِ الجغرافيا.
أما أنا فلا أدّعي لنفسي الإنصاف، لذلك أحبّ أن تتصدّر صورة الطبيب، أحمد عبد العزيز، ولاعب الكرة، محمد أبو تريكة، والممثل محمد سلام، ومغني الراب، ويجز، ومن على شاكلتهم صورة المشهد المصري المؤازر والمناصر لغزّة، لكنّي على الجانب الآخر لا أنكر وجود صور أخرى مناقضة تمامًا للصور الأولى، وأزعم في نهاية المطاف أنّ الصور الأولى هي المعبّرة أكثر وأوسع عن أخلاقِ المصريين وطباعِهم الذين، لولا التضييق الأمني عليهم، لجعلوا العالم يرى العجب العجاب منهم. وما ذلك على الله ببعيد.