معضلة القطار: سلميّة أم ساديّة؟
في فيلم "الابن الصالح"، من إنتاج عام 1993، تكتشف الأم أنّ ابنها "هنري" مجرم، إذ حاول قتل ابن عمه "مارك". في نهاية الفيلم، في لحظة يوشك فيها هنري ومارك على الوقوع من حافة تلّ بعد قتال بينهما، تُمسك الأم بهما، فيتعلّق هنري بيد أمه ويتعلّق مارك باليد الثانية، وتصبح الأم أمام قرار جنوني، فعليها أن تنقذ أحدهما وأن تترك الآخر ليسقط. تقرّر الأم في النهاية إنقاذ "مارك" الطيب وترك ابنها "هنري" الشرير للموت.
نهاية بسيطة جداً، فالكاتب يقول لنا إنّ الخير انتصر على الشرّ، والأم اتّخذت القرار الأخلاقي الصحيح.
يأخذنا قرار الأم البسيط إلى قرارات أخرى، حيث يكون الخيار الأخلاقي صعبًا، فلا يكون الخيار بين شرير وخيّر، بل بين خيِّرين، كما نجد مثلًا في معضلة القطار الشهيرة، التي تتمثّل في وجود قطار يسير نحو مجموعة أشخاص، ولا يمكن إيقافه، بل يمكن تحويل مساره إلى مسار ثان يوجد عليه شخص واحد فحسب، فإما أن يسير القطار باتجاه المجموع ويقتلهم، أو أن يُحوَّل مساره باتجاه الفرد ويقتله. وبصرف النظر عن الاختلافات الكثيرة حول هذه المعضلة، السؤال الذي ينبغي طرحه هنا: هل سيخضع القرار الذي سيُتَّخذ في لحظة كهذه للعقل والأخلاق، أم سيخضع لغير ذلك؟
يسهل على النظرية النفعية الأخلاقية، التي تنادي بتحقيق أكبر قدر من المنفعة إلى أكبر قدر من الناس، أن تقول إنّ الخيار الأفضل هو توجيه القطار نحو الفرد وإنقاذ المجموع، لكن الفلسفة والتحليل النفسي لا يستسهلان الخروج بالنتائج. وهذا ما دفعني شخصيًا إلى التفكير مطوّلًا في هذه المعضلة، إذ كنت ميّالة إلى الاعتقاد بأنّ الإنسان في لحظة كهذه لن يكون قادرًا على تغيير المسار نحو الشخص الواحد لأسباب كثيرة، وربما ينتهي به الأمر إلى قتل المجموع. بحثت عن نتائج "معضلة القطار"، التي لم تُطبَّق فعليًا، وكانت نتائجها نظرية فحسب، إلى أن عثرت على مَن طبَّقها، وهو مايكل دايفيد ستيفنز الذي أجرى التجربة في برنامجه التلفزيوني، وكانت المفاجأة هي، كما توقّعت، أنّ خمسة أشخاص من أصل سبعة لم يحوّلوا القطار نحو الفرد، وتركوه ليسير نحو المجموع.
نتعاطف مع المجموع الذي يبقى بلا "وجه"، إلا أننا نتورّط عاطفيًا وقصصيًا مع "وجه" واحد
هناك تفسيرات كثيرة لهذا الخيار. فيمكن النظر إليه بوصفه قتلًا قصديًا للمجموع، أو بوصفه فِعلًا سلميًا، فالفاعل هنا اختار عدم التصرُّف (إلا أنه قَتَلَ في النهاية). على الرغم من أنّ التجربة وافقت توقعاتي، فلم تقنعني تمامًا، لأننا في المعضلات الفعلية لا نكون على مسافة بعيدة ومتساوية من الأشخاص الموجودين على مساري القطار. وهذه المسافة القريبة نسبيًا منهم، تجعل القرار أعقد وأكثر "لاعقلانية". ويكفي أن يظهر وجه الفرد الواحد، حتى يصبح القرار جنونيًا، فهشاشتنا تنكشف أمام وجه واحد، وقسوتنا تنكشف أمام الجموع. نتعاطف مع المجموع الذي يبقى بلا "وجه"، إلا أننا نتورّط عاطفيًا وقصصيًا مع "وجه" واحد.
في فلسفة "الوجه"، يرى الفيلسوف الفرنسي، إيمانويل ليفيناس، أنّ الوجه حين ينكشف أمامنا يكون بمنزلة دعوة لمفارقة الذات والدخول في علاقة أخلاقية مع الآخر، إذ يفرض "الوجه" نفسه علينا بعُريه وتعاليه، ويحمل وصية "لا تقتل". غير أننا نعرف أنّ "الوجوه" لم تكن متساوية لدى ليفيناس، فقد اقتصرت وصية "لا تقتل" لديه على "وجوه" الشعب اليهودي، وبقي الشعب الفلسطيني بلا "وجه".
لكن السؤال هنا: هل تقول وصية الوجه "لا تقتل" أم "لا تقتلني"؟
وفي معضلة القطار المجنون الذي يتيح خيارين فحسب، ماذا تعني هذه الـ "لا تقتلني" من الوجه؟ ألا تعني هنا "اقتل الآخرين"؟
في الحقيقة، الموضوع أعقد من ذلك، لا شك أنّ الوجه يفرض وصية ما، لكنها ليست بالضرورة وصية "لا تقتل". نَقَدَ الفيلسوف الفرنسي، جيل دولوز "الوجه" الليفيناسي، وأكّد أنّ "الوجه" يرتبط بالسياسة والسلطة، ويُخفي دلالات كثيرة. وعليه، قد يحمل الوجه وصية من أي نوع. ويكون تورّطنا العاطفي مع "الوجه" الواحد، أشدّ خطورة من تعاطفنا مع المجموع.
فلنعد إلى فيلم "الابن الصالح"، حيث كان الخيار الأخلاقي بسيطًا، بين طفل خيّر وطفل شرير، فهل لو كنّا في مكان الأم سنختار مثلها قتل الشرير وإبقاء الخيّر؟ هل ستتّسق تصرفاتنا مع رغباتنا؟ ماذا عمّن وجّهوا القطار نحو المجموع بدلًا من الفرد؟ ماذا عمّن وقفوا مكتوفي الأيدي تاركين القطار يتجه نحو المجموع ليقتله؟ ماذا عن المعضلة السورية؟ ماذا عن القرارات والعقوبات والمحاولات الكثيرة الداخلية والخارجية المتعلّقة بها؟ هل سنختار قتل الطاغية وإنقاذ الشعب المظلوم؟ هل يُقتَل الشعب بدلًا من الطاغية كما قُتل المجموع بدلًا من الفرد في معضلة القطار؟
إننا في حاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة النظر في ما يُعَدُّ أخلاقيًا وعقلانيًا، والكشف عن كلّ أشكال اللاعقلانية التي تُبطِّن سردياتنا الكبرى عن الخير والحق والصواب
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لاحظ المحللِّ النفسي البريطاني إدوارد غلوفر، أنّ السلميّين والمعارضين للأنظمة الشمولية الاستبدادية كثيرًا ما ينتهي بهم الأمر إلى الدعوة للحرب، إذ تبرز نزعة سادية لاواعية لديهم إلى التدمير. ويشبّه غلوفر هذه النزعة بتلك التي نجدها لدى طفل "بنى منزلًا من الطوب، ثم بضربة يد واحدة دمَّر المنزل وبعثره". يأخذنا هذا الأمر مباشرة إلى الدافِعَين المتناقِضَين اللذين تحدَّث عنهما فرويد، دافع الحياة ودافع الموت، اللذين حين يُكبتان، يُترجمان إلى أفعال متناقضة أقرب إلى اللاواعية منها إلى الواعية. وهذا ما أكّده أيضًا عالم الأعصاب الأميركي، بنجامين ليبيت، الذي اكتشف أنّ القرارات التي نتّخذها، ونعتقد بأنها عقلانية ونابعة منّا، يمكن اكتشافها قبل 300 ميلي/ثانية من اتّخاذنا إياها، فهي تخضع إلى اللاوعي.
يتّضح هذا التناقض في لحظات اتخاذ القرار، إذ يكفي أن يظهر "وجه" الفرد، أو مثلًا وجه الطاغية الضاحك بين المجموع الذي يحمل رسالة "لن تستطيع أن تقتلني"، للتورُّط معه عاطفيًا في علاقة كراهية وظهور نزعة سادية بدلًا من أن تُحوِّل القطار إلى الطاغية، تُوجِّهه في لحظة لاعقلانية نحو المجموع، وبضربة يد واحدة، تَقتُل المجموع.
إننا في حاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة النظر في ما يُعَدُّ أخلاقيًا وعقلانيًا، والكشف عن كلّ أشكال اللاعقلانية التي تُبطِّن سردياتنا الكبرى عن الخير والحق والصواب. ليس إلا الكشف عن اللاعقلانية يمكن أن يُنقِذ المجموع، ويُعيد توجيه القطار إلى الطاغية، في نهاية أبعد ما يمكن أن تكون عن البسيطة.