ملف| الإعلام العالمي للمقاومة (4)
إنّ الإعلام في معناه الاصطلاحي العام يتمثل في أنّه امتدادُ مُخرجات الاتصال ووقع صداها تفسيرياً، مع حواشٍ ومدخلاتٍ ومخرجاتٍ وتعليقات، وإنّ هذا الإعلام سلاحٌ بعدّة حدود تقتضي تَدخُّل العامل الزماني والمكاني والسياسي طبعاً، وحتى الاجتماعي بلا شك، (فصاحب السلطة الإعلامية هو المُخاطِب، والمجتمعُ هو المُخاطَب)، وهذه اللعبة الإعلامية باتت اليوم أفتك في قلب الموازين وتغيير النماذج الفكرية المُعَلَّبَة مسبقاً من الوَسَطِ المحلي المُسَيطِر وحتى من القاعدة الاجتماعية التي يُفترض رسوخها لحمل شبكة علاقات المجتمع، وهذا علمياً وأكاديمياً أدى إلى ظهور مصطلحات جديدة تُلخّص جوانب عدّة من هذه الظاهرة كمصطلح القوة الناعمة (على مستوى السياسة)، ومفهوم الحرب النفسية (على مستويات عِدَّة)، ووضعت قاعدة محورية واضحة تقول: "إنّ الموقفَ الغالبَ باتَ للفاعليةِ لا للجاهزيةِ بالضرورة، وللأصلبِ لا للأكثرِ بالضرورة، الأصلب إيماناً ونهجاً بالقضية المطروحة، وموثوقيتها الظاهرة (حتى لو لم تكن حقيقة، ولكنها تُصَوَّرُ على أنها كذلكَ بأساليب مدروسة مختلفة)".
إنّ حرب غزّة القائمة اليوم (طوفان الأقصى) أظهرت أنّ للمقاومة في غزّة جناحاً إعلامياً وإخبارياً (حتى ولو لم تكن له صيغة رسمية لدى بعض الفصائل) متقدماً وفعالاً في دراسة المشهد وتقييمِهِ وآلية بثه، آخذين بعين الاعتبار، كلّ الحسابات الزمانية والمكانية بشكل غير مسبوق ولا معهود، وذلك من ثلاثة أوجه:
أولاً، هنالكَ فهمٌ جَليٌ لبُنية المجتمع الإسرائيلي وجهازه النفسي، وآلية التعاطي معه ومخاطبته، ما أثر على الساحة السياسية، تحديداً في إسرائيل، وعلى مختلف الأصعدة، ولعلّ هذا بدأ ظهوره حقاً في عام 2014 في معركة العصف المأكول (كما تسميها المقاومة)، حينما رأينا الشارع الإسرائيلي ينتظر خطاب أبو عبيدة (المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس)، لرؤية إن كان سيقول إنّهم يستطيعون العودة إلى منازلهم في غلاف غزّة أم لا، ويُكَذِّبونَ تصريحات رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية حينها بني غانتس، في مشهد صادم للقيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل، وهو مشهد تكرّر في معركة سيف القدس (2021).
ثانياً، مخاطبة الشارع العربي الذي بات يرى أنّ في المقاومةِ توحيداً لرؤية الشعوب في التخلّص من الاحتلال الإسرائيلي، لا بل والاستعمار ككل، في المنطقة بأكملها، وأنّ المقاومة تمثل حامي الهوية والدين والأصالة المجتمعية.
إيمان الصهيونية بمبدأ "إثبات الفكرة بدحض نقيضها ظاهرياً وشكلياً" فكرة واهية مبهمة
ثالثاً، التعامل مع الشارع الفلسطيني بأطيافه الدينية والسياسية المختلفة، حتى التعامل مع الرافضين لفكرة المقاومة المسلحة (كالسلطة الفلسطينية وغيرها).
وهنالك أيضا بُعدٌ رابِعٌ أثبتَ وجوده وتأثيرَهُ مع حرب غزّة الحالية، وهو مخاطبة الشعوب بكافة أطيافِها وأعراقِها حولَ العالم. هذه المنظومة ذات الأبعاد الأربعة المذكورة ليست نتاج صدفة ولا محاولات، ويتضح أنها مقصودة ومدروسة بكلّ دقة، لا بل وأساسية في أهداف المقاومة، وأثبتت تغلبها الواضح على الدعاية الصهيونية المعاكسة لها في العالم كلّه وليس فقط في إسرائيل.
على الصعيد الدولي، ولنأخذ المجتمع الأميركي بقاعدته الضخمة مثالاً في غاية الأهمية: في دراسة (استطلاع للرأي) نُشِرَتْ في منتصف ديسمبر/ كانون أوّل 2023، وأحدثت صدمة كبيرة جداً، وتناقلتها كُبرى وسائل الإعلام على مستوى الولايات المتحدة، وأعدتها جامعة هارفارد الأميركية وشركة هاريس بول لاستطلاعات الرأي، عن رأي المجتمع الأميركي تجاه الحاصل في غزّة، إذ يقول الاستطلاع: إنّ 51% من جيل Z (فئة الشباب من مواليد عام 1996 إلى 2011 تقريباً) يعتقدون أنّ حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يكون إلا "بنهاية دولة إسرائيل"، علماً أنّه قبل شهرين، وتحديداً بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل، كان فقط 26% من جيل Z كان مقتنعاً بهذا الحل، وهنا يظهر تأثير إعلام المقاومة وروايتها جلياً (وعلى الشباب تحديداً).
ويقول التقرير أيضاً: أنّ 51% من فئة الشباب هذه تقف في صف المقاومة في الولايات المتحدة، وأؤكِدُ هنا أنّ التأييدَ للمقاومة ولم أقُلْ للمدنيين، بمعنى أنّه حتى صورة "الإرهاب" التي يلصقها الإعلام الصهيوني والغربي الداعم له على المقاومة، بدأتْ في التلاشي والاندثار من عقول هذا الجيل، علماً أنّ هذه الإحصائيات أقل بنسبة كبيرة في الذين أعمارهم (65 سنة وأكثر)، وهذا طبيعيٌ جداً كون أنّ هذهِ الأجيال السابقة نشأت على الدعاية الأميركية المحلية الداعمة للصهيونية ولإسرائيل، وقبل ظهور الإنترنت الذي ينقل الروايات المُضادة، هذا شيء يسير مما أورده الاستطلاع، ويمكن للمهتم أن يبحث عنه ويطَّلع عليه.
إنّ هذه الصاعقة التي حطتْ على اللوبيات الصهيونية، تلك التي أنفقتِ المليارات، إضافة إلى كلّ ذلك التعب والجهد المُضني في زرع المجتمعاتِ الغربيةِ بالروايةِ التي ترغبْ، ومحاولة بناء "هيكل" في الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هناك، لا أُنكر نجاحها في الأول والثاني، ولكن الأخير أثبتَ أنّه شوكةٌ في الحلق، وإنّ إيمانَ الصهيونية بمبدأ "إثبات الفكرة بدحض نقيضها ظاهرياً وشكلياً" فكرة واهية مبهمة، وكلّ المحاولات على مدار المئة سنة الماضية وما قبلها من أيام كتاب "الدولة اليهودية" لثيودور هرتزل، ليس إلا دوراناً حولَ نفسِ الحقل وبنفسِ الأسلوب، وأنّ الشعوبَ الغربيةَ بشرٌ وليسوا آلات، حتى لو حرّكتهم وسيطرتَ عليهم رَدَحاً من الزمن، وخاطبتهم بخطابٍ يدغدغُ الأحاسيسَ ويلعبُ على وترِ المشاعر، سَيَنْبِشونَ عن الحقيقةِ إن أرادوها أو شعروا باللبسِ كما كلُ البشر، وهذه فطرةٌ فُطِرَ الناسُ عليها، ولربّما استطاع هرتزل وروتشيلد إقناعَ بلفور وبريطانيا العظمى بحق اليهود في حلمٍ دراماتيكيٍ يهودي، ولكن هل اقتنعوا بأنّ الله الأعظمَ له في أرضهِ موازين، أهمُها: "أنَ الحقَ يُؤخَذُ بالحقِ، بميزانٍ حقٍ، ويُعطى لصاحبِ الحقِ" ولو بعدَ حين.