ملف: المرأة في مرآة المجتمع العربي (28)
عبد الحفيظ العمري
يتحدث المفكر هشام شرابي عن مجتمعنا العربي فيقول: "إنه مجتمع يعاني من تخلّف من نوع آخر، فهو ليس تخلّفاً اقتصادياً أو إنمائياً أو تربوياً، بل يكمن في أعماق الحضارة الأبوية والتي تسري في كل أطراف المجتمع والفرد وتنتقل من جيل إلى جيل كالمرض العضال"، وتكمن هذه الأبوية في القبيلة التي تمثل مع "الغنيمة" و"العقيدة" محددات حكمت العقل السياسي العربي في الماضي وما زالت تحكمه بصورة أو بأخرى في الحاضر، كما يرى د. محمد عابد الجابري، وهكذا تجذّر النظام الأبوي لدينا وصار قالباً يتم تناسخه لكل زمان، وسرى في كل كيانات المجتمع بما في ذلك الأسرة، حيث الأب هو الحاكم الأعلى بسلطته الطاغية، والأنثى، سواء الزوجة أم منْ يعيل، هي رعية في هذه المنظومة، لكن الذكور مرقوا من الطغيان هذا بحكم مشاركتهم الأب في الانتماء لنوع الجنس، والنتيجة أن المرأة صارت هي الحلقة الأضعف في هذه المنظومة.
حتى أن الإسلام لم يفلح، على عظمته، في تهذيب هذا الأمر، بالرغم من كل المواعظ التي جاءت في القرآن الكريم والحديث الشريف الحاضة على الرفق بالنساء ممّا يحفظه المجتمع الإسلامي، فأين الخلل؟
الخلل كما يوضح ابن خلدون في مقدمته: "لمّا أخذ المسلمون عنه ]يقصد النبي صلى الله عليه وسلم[ دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم، لِمَا تُلي عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سَورة بأسهم مستحكِمَة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحُكم، ولمّا تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة، ثم صار الشرع عِلْماً وصناعة يُؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سَورة البأس فيهم، فقد تبيّن أنّ الأحكام السّلطانيّة والتّعليميّة مفسِدة للبأس لأنّ الوازع فيها ذاتيّ".
فهذان التأديب والتعليم للدين جعلا منه صناعة بيد الفقهاء، وأي فقهاء؟ إنهم فقهاء السلاطين أو وعاظ السلاطين، كما يسميهم د. علي الوردي، الذين سوغوا للحاكم بأمره الظلم والاستبداد، وسرى هذا التسويغ في كل سلطة أبوية في المجتمع، وفي نفس الوقت سقطت هيبة الدين ووازعُه من النفوس، ولم تبقَ إلا شعائره التعبدية التي يؤديها المسلمون اليوم بلا روح، فصارت طقوساً لا أكثر.
اللغة تؤثر في طريقة تفكيرنا، فاللغة لا تعكس الواقع، بل تُشكّله، كما يرى نيك إنفيلد في كتابه "اللغة مقابل الواقع"
أضف لذلك أن عصر التدوين للعلوم الشرعية من فقه ونحو وغيره جاء في بداية العصر الأموي الذي انبثق بعد صراعات دامية على الحكم أوردتها كتب التاريخ، وإن ألبستها فرقنا الإسلامية بعد ذلك لباس الدين، كلٌ على حسب هواه، فكان التدوين امتداداً للسلطة الأبوية، وبما للذكور من حظوة في هذه السلطة؛ فلا نجد ذِكْر في هذا التدوين لعالمة نحو، ولا مفسرة قرآن، بل قليلاً من آراء بعض النساء في الفقه، وحتى تقعيد اللغة انتصر المذكر على المؤنث؛ يقول ابن جني في الخصائص: "تذكير المؤنث واسع جداً لأنه رَدُّ فرعٍ إلى أصل"؛ فالأصل هو المذكر، وزيادة على ذلك جعلوا للتأنيث علامات تميزه عن التذكير!
واللغة تؤثر في طريقة تفكيرنا، فاللغة لا تعكس الواقع، بل تُشكّله، كما يرى نيك إنفيلد في كتابه "اللغة مقابل الواقع".
هذا التفرع الأنثوي يُشعر المجتمع بأن المرأة شيء ملحق إذا لم يكن مهملاً، ولنتذكر أنه لا يزال في ثقافتنا الشعبية العربية، مع تفاوت من دولة لأخرى، ذِكْر اسم المرأة – مجرد ذِكْر اسمها على الملأ – عيب، ناهيك بكشف وجهها...
ونحن في العامية اليمنية لا نزال نُسمّي أي امرأة بـ(مَكْلَفْ)، وتجمع على (مكالِفْ)، يقول الأستاذ مطهر الإرياني في (المعجم اليمني في اللغة والتراث): المَكْلف المرأة، أو صفة يُكنّى بها عن المرأة، باعتبار أنها غير مُكَلّفَة بمهام الأمور، بل هي كُلْفَة على الرجل".
ولو عدنا إلى الدين لوجدنا رواجاً هائلاً للأحكام التي تنتقص من قدر المرأة لدى العامة قبل الخاصة؛ فهم لا يحفظون من القرآن الكريم إلا قوله تعالى: }فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ{ ]النساء:3[، وقوله عز وجل: } وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ{ ]النساء:34[، وغيرها من الآيات الكريمات التي تناسب هواهم، هكذا، اجتزاءً من سياق الآيات ومن دون معرفة بتفسيرها، ولا يعرفون من الآثار عن النساء إلا أنهن ناقصات عقل ودين، ولهن نصف نصيب الذكر في الميراث، ولا يصلح أن يتولين الحكم، وشهادة المرأة بنصف شهادة الرجل... إلخ، وما شاكلها من آثار ترى المرأة أقل حظاً ومكانةً من الرجل.
إن هذه الثقافة الشعبية لهذه المفاهيم راجت دون معرفة بسياقات تلك النصوص ومقاصدها، ومنْ أراد فحوى تلك النصوص على حقيقتها فليراجع كتاب الدكتور محمد عمارة (التحرير الإسلامي للمرأة المسلمة)، ليجد تفاصيل ما أقوله.
كل هذه الثقافة التي شاعت، دون تصدٍ من فقهائنا الثقاة لتوضيح ما خالط العقل العربي (الذكوري) من فهم عليل، أفرز فكراً خاطئاً نَظَر إلى المرأة على أنها مجرد (متاع) من أمتعة الدنيا؛ تماماً كالسيارة أو أثاث البيت أو أي شيء ملحق بالرجل في منظومة مجتمع ترّبى فيه على أنه السيد الآمر، والأعلى رتبةً من كل شقيقاته اللواتي لا حول لهن ولا قوة.
في مجتمعٍ تسقط البنتُ ويُحمى الرجلُ، كما يقول نزار قباني!
وبعد كل هذا نستغرب من العنف ضد المرأة (اللاشيء)، و(المتاع) تعيش في مجتمع لا تزال القبيلة ممسكة بمقاليد الأمور، ونردد مع الشاعر صلاح عبدالصبور:
"لا أدري كيف ترعرعَ في وادينا الطيّب
هذا القَدْرُ من السَّفَلة والأوغاد"؟!