ملف: كيف نعالج عنصريتنا؟ (14)
لم تكن العنصرية يوماً وليدة المجتمع العربي إلاّ في جاهليته، في حين أنّ للعنصرية سرديات معقدة في المجتمع الغربي، ومع ظهور العولمة والحداثة وسياقاتها المختلفة، انتقلت العدوى إلينا، ودواؤنا في المجتمع العربي منّا وفينا؛ على خلاف المجتمعات الغربية حيث تسود الأخلاق البراغماتية.
العنصرية الغربية في نشأتها استعمارية إمبريالية متوّجهة نحو الخارج، فيما الداخل ديمقراطي، تعمل فيه دولة القانون والعدالة الاجتماعية، في حين أنّ المجتمع العربي محكوم ومرتهن لديكتاتورية داخلية بين أبناء وطن وشعب وعرق واحد.
كلّ التعاليم الدينية التي نزلت في أرضنا لم تُوص بالعنصرية، بل على العكس من ذلك، هذّبت التعصب القبلي الذي كان سائداً آنذاك، "فلا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى". فنحن على دين أنبيائنا، في حين أن المجتمعات الغربية على الدين النيتشوي (نسبة إلى نيتشه)، والذي هو في الحقيقة لم يدع إلى سوء، بل قام بتفسير مآلات الحرب العالمية آنذاك، والتي مصدرها الغرب لا الشرق، ليتم توظيف النيتشوية بغية مآرب استعمارية سوبرمانية في نهاية المطاف. إضافة إلى قضية تفوّق العرق الأبيض المسيحي على دونه من الأعراق، فغدا الغرب كلّه، وإن كان يعادي الهتلرية، إلا أنّه تحوّل إلى هتلر غربي آخر، والذي لم يكن صراعه مع هتلر ذاك، إلا لتفوّق عرق خاص على عرق عام. ولكن في حقيقية الأمر، المنطلق واحد وهو التفوّق، بمعنى الإخضاع، ما يجرّنا إلى أخلاقيات وسياسات براغماتية على من هم أضعف منّا، أو نعتبرهم كذلك. فلمّا دخل الاستعمار إلى بلادنا، نفذ إلينا الدين النيتشوي، بالإضافة إلى تفوّق عرقيته، فزرع في العقل الجمعي العربي معادلة "فرّق تسد"، وهذه المعادلة تحديداً معدّة إلى العالم الشرقي لاعتبارات توّسعية معينة، ونتيجة توكيد السلبي للذات، فصارت المعادلة تلك، ضمناً ومضموناً، في عقل كلّ عربي يستخدمها تجاه الآخر ثم المجموع الذي يشترك معه ديناً، وعرقاً، وطائفةً، وذلك فضلاً عن رئاسات وجمهوريات مرتهنة للاستعمار السياسي للغرب.
في خضمّ هذه المشاريع الاستعمارية، أطلّت علينا اتجاهات اليمين واليسار، ولا يمكن فهم العالم اليوم إلا من خلالهما، فلا تزال مرتكزات أيّ مجتمع، وأيّ سياسة قائمة عليهما، بل القائم مقام فيهما. اليمين في ثقافته يستند إلى حق القوة، ما يجعله يتوّجه إلى نهب ثروات البلاد والعباد، في حين أنّ اليسار يستند في ثقافته إلى قوة الحق في تمكين الفئات المستضعفة الكادحة، ما يجعله يعمل ويهتم في شؤونه داخلياً على نقيض اتجاهات اليمين، ونتيجة هذه الثقافة تتوّجه اتجاهات اليمين إلى خطاب الكراهية والعنصرية في محاولة منها للعب دور البطل القوي الذي يريد البطولة له ولفريقه الخاص، بغضّ النظر عن عدالة اللعبة ككل ومجموع، ما يدفع (في المقابل) اليسار إلى ردّة فعل على اليمين، فيصبح كلا الاتجاهين في بوتقة واحدة، وعلى مستوى واحد من الخطاب العنصري.
بعض الدول تجرّم خطاب الكراهية داخلها، ولكن حين ينطلق نحو الخارج يتحوّل فجأة، ودون سابق ترويّ، إلى حرية تعبير
كما تجدر الإشارة إلى أنّ الدول اليمينية العلمانية في تناقض عكسي، إذ تعتبر خطاب الكراهية داخلها مجرّم بالقانون، وحين ينطلق نحو الخارج يتحوّل فجأة ودون سابق تروّ إلى حرية تعبير، كما فعلت فرنسا في قضية "شارلي إيبدو". فمشكلة القوانين عموماً، أنّ من يشرّعها هم البشر، ما يعني أنّها خاضعة، أولاً وأخيراً، إلى أهواء شخصية واعية أَو غير واعية كامنة فينا، وفي الخصوص الدول اليمينية إذ تطبّق قوانينها داخلياً، وكلّ تجاوز خارجي يعدّ حرية تعبير!
وفي حديثنا عن الخطاب السياسي الداخلي أو الخارجي لأيّ دولة كانت، فهو يتسم بتجييش مكنونات النفس عن طريق تقليب الهو على الأنا الأعلى، في خطاب منمّق ومدروس لترتاح النفس في قاع الهو، فلا تشعر بمقاومة من الأنا الأعلى... انغماس حرّ في الهو، ولذته تعمي القلوب والأبصار عن رؤية الجانب العنصري من الخطاب، إذ يدعم هكذا خطاب ميكانيزمات في النفس البشرية؛ الكبرياء، الطمع، الرغبة، الغصب، الشراهة، الحسد، الغرور، وكلّها أمراء الشيطان والحرب في آن.
وبالطبع، نحن نعلم أنّ لا خطاب سياسياً دون أدوات إعلامية تسانده، ليكون فعلاً خطاباً جماهيرياً، ولأنه خطاب سياسي لا بدّ له من تمويل أدواته الإعلامية أولاً، وثانياً لا بدّ من استمالة الجمهور الإعلامي إلى صفه كون الإعلام هو ابن المجتمع وابن السلطة لا السلطة الرابعة، وليس فيه حيادية أو ما شابه ذلك من كلام مغلوط، فالإعلام من حيث ندري أو لا ندري، هو ملتزم سياسياً، ونتيجة ذلك ينتقل الإعلام إلى بوق تجييشي في أعلى مستوياته، لينقل موجات مركّزة من خطاب الكراهية والعنصرية بملء إرادته هو، إذ إنّه مرتهن، وليس مستقلاً بأيّة حال.
من الجهة الأخرى، إنّ التربية الاجتماعية العربية قوامها "الاختلاف خلاف"، فنحن نرفض من يختلف معنا في الرأي والقول والعمل، وفوراً، وبادئ ذي بدء، نضعه في قائمة سوداء "فنعنصر" أنفسنا، فقط لأنّنا نرفض اختلاف ما في واقع يؤّيد تماثل رؤى، وأهداف، وشخصيات معينة، بناءً على موروثات اجتماعية مغلوطة.
إنّ مواجهة عنصريتنا هي جهد شخصي، قوامه العلاج النفسي الذاتي، إذ يتوّجب أن نسأل أنفسنا عند أيّ مسألة تثير فينا حساسية عنصرية، العناصر الآتية: من؟ ماذا؟ متى؟ أين؟ لماذا؟ كيف؟ كي نحلّل مكنوناتنا عن عنصريتتا، وكأنّنا نكتب خبراً صحفياً مع أنفسنا عن عنصريتنا، فتغدو صورتنا أمام أنفسنا مشوّهة، فنبتعد عن العنصرية من تلقاء أنفسنا في المرّات القادمة، فنحن لا نحبّ من يشوّه صورتنا أمام أنفسنا، خاصة إذا كنّا نحن من يشوّهها.