من بديع ما جاء في اللَّهجات العربيَّة
لا شكَّ أنَّ المجاز المبتكر في الأقوال المحكيَّة في كثير من اللهجات العربيَّة (على اختلافها) مشروطٌ بذكاءٍ لغويّ فريد، وخيالٍ شاسعٍ، وحسٍّ فكاهيٍّ أحيانًا، مضاف له الربط المنطقيّ بين الكلمات والمعاني. وكلّ ذلك بهدف إيصال المعنى المراد من القول بالشكل الصحيح، وبما يتناسب مع الموقف الحاصل آنذاك.
ما زلت أتذكر بإعجابٍ عبارةً في اللهجة الفلسطينية، تُقال إذا أرادَ شخصٌ أن يُسعدَ شخصًا آخر مُقرّبًا فلن يجد أجمل من أن يقول له: "أنت من عظام الرقبة"، ومن لطيف لهجة أهل ليبيا إذا أردت أن تقاطع أحدًا وهو يتحدث تقول له: "قطعت على كلامك بالعسل"، فيرد: "عسّل جوابك". وفي الشوق تقول: "استاحشتك"، فتجد الجواب: "ما يوحشك غالي"، أو في بعض المدن: "تستاحشك رحمة ربي".
وفي اللهجة اليمنية عوضاً عن كلمة "أنتظرك" يقولون: "أراعي لك"، وهو من أجمل ما قيل في رقة اللطف والأدب في جواب الانتظار، وكأنّ مشاعر الخوف عليك، والترقب، والشوق إليك، حاضرة في "أراعي لك" أكثر مما هي في كلمة "أنتظرك".
إنَّ طبيعة المشهد تحملنا على استحضار القول المحكيّ بصورة تلقائية، هذه الأقوال المحكيَّة هي بالضرورة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بثقافة المجتمع، تحمل دلالة صريحة على ما كان عليه وما آل إليه، وفي الحالتين هو تمثيل محكيّ للصور النمطيَّة، غالبًا، التي نشأت عليها تلك المجتمعات؛ لذلك نجد أنَّ كثيرًا من الأقوال منبثقة عن خلفيات ثقافية مألوفة بالنسبة لقائلها، بينما هي غير مألوفة بالنسبة لشخص لا ينتمي إلى المجتمع ذاته. وهي بذلك نمذجة للمفاهيم وأدلجة للسلوكيات التي يتخذها المجتمع مسلَّمات يؤمن بها، ليصبح الجيل الجديد واعيًا بتلك المفاهيم في حضرة مشهد مستجدٍّ، إلَّا أنَّ تلك الأقوال ما زالت تحمل بريقها، وتُسقَط على المواقف والشخوص كما كانت سابقًا، أي أنَّ معياريَّة الزمان والمكان فيها سارية إلى أجل غير مسمَّى.
اللهجات تمثيل صريح للواقع الذي يعيشه المجتمع، وتصوير للأفكار والمعتقدات التي يتبنَّاها أفراد ذلك المجتمع
لم تغب عنّا، ونحن نمعن النظر في اللهجة الفلسطينية وغيرها من اللهجات العربية عموما، والشامية خصوصًا، الدلالات التي تحملها الأرقام، فمثلًا يُستخدم الرقم (2) للدلالة على طول مدة الانتظار، وفي الواقع تكون مدة الانتظار عدة دقائق فقط، فيقولون: "صرلي ساعتين بستناك" (أي كنتُ أنتظرك وقد طال الانتظار)، "صرلي ساعتين واقف"، وفي ذلك إيهام بطول مدة الانتظار. أمَّا الرقم (7) فيستخدم تعبيرًا عن النوم العميق؛ فيُقال: "فُلان في سابع نُوْمَة" أي في حالة نوم لن يستيقظ منها إلَّا بعد وقت كافٍّ، والرقم (10) يستخدم لتقييم الأشياء وغيرها؛ إذ يقولون: "أداؤك 10\10"، بينما الرقم (100) عادة ما يُستخدم للتعبير عن السلام والترحيب؛ فُيُقال: "100 مرحبا" أو "100 أهلا وسهلا"، كذلك يُقال في حالات التهنئة بوظيفة أو نجاح أو قبول؛ فيقولون: "1000 مبروك". والرقم ذاته يُستخدم في التعبير عن العتاب والمبالغة في النصيحة التي لم يُؤخذ بها؛ إذْ يُقال: "100 مرَّة قلنا لك" أو "100 مرّة ناديت عليك وما ردِّيت". والرقم (1000) يُقال حصرًا في حالات التهنئة بالنجاح أو التخرج أو مولود جديد وغير ذلك. ورقم (60) غالبًا يتموضع في حالات السُباب والشتائم... وهلمَّ جرا.
ومحصلة القول، إنَّ اللهجات تمثيل صريح للواقع الذي يعيشه المجتمع، وتصوير للأفكار والمعتقدات التي يتبنَّاها أفراد ذلك المجتمع. والكثير من الأقوال المحكيَّة التي تسير على ألسنة العامَّة تصلح للقول في العديد من المواقف وتُستخدم في وصف الأشياء والشخوص والسلوكيات.