من حكايات حارتنا: الغني المَلول
عبد الحفيظ العمري
حارتنا واحدة من حارات الدنيا الضيقة، التي لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي.
وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.
(1): حكاية (يوم واحد)
ذات يوم جلستُ مع أحد أصدقائي القدامى في الحارة نتذاكر أحوالنا، فقال: هل تعرف أننا نعيش يوماً واحداً فقط!
قلت: يوم واحد، كيف؟!
قال: ببساطة، نحن نعيد كل يوم أحداث اليوم السابق بحذافيره؛ كل يوم نستيقظ، فنتناول طعام الفطور، ونسرح في الشارع حتى الظهر، ثم يأتي وقت القات (نبات يمضغ اليمنيون أوراقه لأنه منبّه)، فننطلق إلى المُقْوَات (سوق بيع القات) لشرائه، ونعود إلى البيت لتناول طعام الغداء، ثم الذهاب للمَقْيَل (مكان تجمع الناس لمضغ القات)، الذي نقضي فيه الساعات الطوال بين قيل وقال وكلام وجدال، حتى الساعة السليمانيّة (مصطلح شعبي يُطلق على آخر ساعة من النهار في أثناء مضغ القات)، ثم ندخل في غياهب الطِنَّان (مصطلح شعبي يُطلق على حالة السرحان بعد مضغ القات)، وبعدها نعود أدراجنا للبيوت كفلول مهزومة، لا علاقة لها بالدنيا ولا بالآخرة... ونظل ساهمين حتى يغلبنا النوم بعد مكابدة سهر طويل، ثم يشرق الصباح علينا لنعيد الدائرة نفسها. دواليك... دواليك.
قلت: لكن هناك استثناءات، وأعمال أخرى نقوم بها.
قال: صحيح، لكن ما قلتُه هو السائد... أليس كذلك؟
صَمَتُّ، ولم أُحِرْ جواباً.
***
(2): حكاية (الغني المَلول)
في حارتنا أغنياء، لكنهم قِلَّة، بما يتماشى مع قوانين التاريخ، فالجَم الغفير هم الفقراء، وأظن أن لفظة (الغفير) تأتي متساوقة مع لفظة (الفقير)!
هؤلاء الأغنياء لهم ميول في التمتع بثرواتهم، إلا واحداً منهم، فقد اختلف عنهم؛ إذ تجاوز شراء العقارات وبناء العمارات وتبديل السيارات وتعدد الزيجات وتراكم البنين والبنات...إلخ، مما يهتم به الأغنياء، فقد تطلّع إلى المناصب في الوزارات، فلمّا نال منصباً، راح يقيم فعاليات تنافسية باسمه الشخصي، ويرصد لها الجوائز المغرية، فعاليات لم تستثنِ جانباً من جوانب الحياة، ابتداءً من الرياضة وليس انتهاءً بالبحث العلمي، مروراً بالطبخ والأدب والحِرَف اليدوية والفن ووو... إلخ!
فعاليات لا يهدأ سوقها طوال العام، فما إن تنتهي واحدة، حتى تنطلق الأخرى، هكذا تباعاً، بوتيرة متسارعة، بحيث يظل اسم صاحبنا حديث وسائل الإعلام، بشكل يفوق غيره.
قلت له، ذات جلسة جمعتني به: مالك يا صاحبي لا يقر لك قرار، من فعالية إلى أخرى؟
قال، بصوت هادئ: إنه الملل، ماذا أعمل إذا جلستُ دون هذه الفعاليات؟
أنا قد عرفتك مشغولاً قبل ماراثون هذه الفعاليات.
صحيح، لكن في أمور لا قيمة لها.
هل ترى أن هذه الفعاليات ذات قيمة؟
بالطبع، فمهما كان النقد الذي يوجه لها ولي شخصياً، لكني أراها ذات قيمة لشخصي على الأقل!
هل يعني هذا أنك أقمتها من أجل شخصك؟
أنا قلت: على الأقل، وما المشكلة أن تكون ذات قيمة لشخصي؟ لِمَ لا تعتبرني واحداً من هؤلاء المستفيدين من تلك الفعاليات؟ أم أننا لا نفلح إلا في النقد فقط؟
ثم أردف: يا صديقي، الملل لا يُطاق، فلتعتبرها (ألعابي) التي أتسلى بها!
ألعابك!
ليكنْ، أنا أنفق من مالي الخاص، فماذا يخسر منْ ينتقدني؟
تركته، دون جواب.
***
(3): حكاية (صاحب التلفون)
في حارتنا رجل لا تراه إلا ملصِقاً تلفونه المحمول بإحدى أذنيه!
هكذا ديدنه دائماً.
وقلما تجده من دون التلفون، متحدثاً أو مستمعاً.
حتى تظن أن التلفون جزء لا يتجزأ منه، أو هو امتداد (طبيعي) ليديه، أو لنقل، تحرياً للدقة، لأذنيه!
هو، حسبما أعرف، ليس رجلَ أعمالٍ كبيراً لتكون اتصالاته بهذه الأهمية لا يستطيع مفارقتها أو تأخيرها إلى حين عودته للمنزل، ولا هو ذاك السياسي المهم الذي يُستشار في كل شيء، فلا بد أن يكون تلفونه قريباً منه كل هذا القرب!
ما أعرفه عنه أنه مواطن بسيط، لذا أحتار من هذا الشغف والكم للحديث بالتلفون، وأخاله ينفق جُلَّ دَخله على تسديد فواتير تلفونه المناضل.
وقد أمد جدل التساؤل بعيداً، فأقول: ماذا كان يعمل مثل هذا الرجل في زمن ما قبل اختراع التلفون المحمول، أيام التلفون الثابت ذي القرص؟!
***
وتستمر الحكايات..
***