من لك أيتها القهوة في زمن قلت فيه النخوة؟
لا يختلف اثنان على أنني من عشّاق القهوة العظام ومحبّيها الكبار، ولو أُقيمت مسابقة عالمية في عشق القهوة والتغنّي بها لكنت في المراكز المتقدِّمة إن لم أكن أنا الفائز فعلًا، كما أنني لا أبالي بنوعها أو أصلها أو تاريخها فأنا أحبّها ببساطة لأنها قهوة وكفى. ومن حسن حظي أنني أمتلك شفتين أسطوريتين قادرتين على امتصاص وارتشاف أي نوع منها دون تعب أو ملل، ويمكنني أيضًا أن أتمطَّق لساعات وتحت أي ظرف كان. لكن مشكلتي هي دائمًا مع أنصار الشاي الذين لا يكفّون عن إزعاجي كلما دخلت إلى المقهى ويطرحون ذلك السؤال الغريب عليّ: "كيف يمكن لشخص مثلك أن يشرب القهوة؟".
في البداية حاولت أن أشرح لهم أنّ علاقتي الحميمة بهذا المشروب هي مسألة ذوق شخصي لا أكثر ولا أقل، وأنّ اختلاف أذواق الناس سنّة كونية، وقبل أن أتبسَّط معهم في الشرح راحوا ينفخون في أكفّهم باتجاهي في إشارة منهم إلى أنّ كلامي مجرَّد هراء، إنهم يتباهون بفوائد الشاي من خلال أسنانهم الصفراء ويضحكون على القهوة وشاربيها في كل مناسبة، وليتهم توقَّفوا عند هذا الحد، ولكنهم بالغوا كثيرًا وروَّجوا لقصص من نسج خيالهم عن قدرات الشاي الرهيبة ومعجزاته التي لا حصر لها، ولم يكتفوا بهذا فقط، بل نصبوا له التماثيل في كثير من البلدان، وقد زرت أحد هذه التماثيل مرة ولا أخفي عليكم إعجابي بتصميمه وموقعه، لقد كان عبارة عن إبريق منتصب وإلى جانبه كأس، لكن المصيبة أنه لم يكن هناك شاي يسيل على الإطلاق ولا حتى ماء.
على كل حال، أنا لم أنكر فوائد الشاي يومًا، فأسلوب تفكيري قائم على الموضوعية. فأنا أحتفي بالتمر كما أحتفي بالحنظل، وأعطي كل ذي حق حقه. لكن هؤلاء المتحذلقين الذين يتبجَّحون بالرغوة الكثيفة في كؤوس الشاي خاصَّتهم يريدون إقصاء القهوة أو الإجهاز عليها وعلى مروِّجيها كما لو كانت نوعًا من الممنوعات، لكن هيهات هيهات. إنهم يرون أنّ الشاي أحد مقوِّمات الحضارة لبلدنا العزيز كما كان يرى الأديب الإنجليزي جورج أورويل. ونسوا أو تناسوا أننا مجرَّد مستوردين، إذ لا يمكن لشيء أن يكون مقوِّمًا حضاريًّا لبلد ما دون أن يكون نابعًا منه ومتأصِّلًا فيه، وعليه فإنّ الصين واليابان والهند وأمثالهم هم فقط من يحقّ لهم أن يجعلوا من الشاي مقوِّمًا حضاريًّا.
في إحدى العشيات استفزَّني أحد الأساتذة الثرثارين المولعين بالجدال عندما بلغه أنني من عشّاق القهوة، وقال بعجرفة: "نحن نغسل كؤوسنا بالقهوة قبل أن نسكب فيها الشاي، مزاجنا عالٍ ولا ينال شرف تحسينه إلا تلك الأوراق الصينية الخضراء". كنت سأردّ عليه بكلمات تجعله يندم على اليوم الذي استفزَّني فيه، ومن حسن حظه أنّ مزاجي كان رائقًا جدًّا، والفضل يعود لتلك الجرعات البنّية العزيزة.
ومن أغرب ما سمعته من أحد علماء الشاي ببلدتنا أثناء مناظرته أنّ القهوة والتدخين وجهان لعملة واحدة وهذا الأمر يكاد يكون حقيقة مطلقة بالنسبة له وليس مجرَّد فرضية
ومن أغرب ما سمعته من أحد علماء الشاي ببلدتنا أثناء مناظرته أنّ القهوة والتدخين وجهان لعملة واحدة، وهذا الأمر يكاد يكون حقيقة مطلقة بالنسبة له وليس مجرَّد فرضية، والعجيب أنّ صاحبنا هذا من كبار المدخِّنين، وله فم أزرق كبير مليء بالثآليل. وما يؤكِّد هذه الحقيقة الباطلة هو أنني في بعض الأحايين تنهال عليّ طلبات من روّاد المقاهي لمجرَّد أنهم لاحظوا وجود كأس قهوة على طاولتي، فهذا يريد سيجارة والآخر يريد ولّاعة، وذاك يريد منفضة سجائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكل هذه الطلبات هي في النهاية نتيجة اعتقادهم الخاطئ بأنّ كل من يحتسي القهوة يجب أن يكون بالضرورة مدخِّنًا.
ولأنّ حبّي للقهوة كان منذ الطفولة، فقد راهن الكثير من المدمنين الانتهازيين على أنني سأكون مدخِّنًا شرهًا في المستقبل، وأُحطِّم الرقم القياسي للمدخِّن العظيم "جيم ماوث" الذي دخَّن 155 سيجارة في وقت واحد عام 1993، ولكن شيئًا من ذلك لم يحصل، ولولا مجاهرتي بشرب القهوة لاعتقد الكثير من الناس أني من أنصار الحليب المسالمين.
إنّ ما أوصي به نفسي وإياكم هو ضرورة الاعتدال في كل شيء، لأنّ الاعتدال هو سرّ عظيم من أسرار السعادة في الحياة، ومهما كان الشيء ذا قيمة، فإنه سيأتي بنتائج عكسية إذا تمّ تجاوز الحدود الآمنة. وهذا يذكِّرني بعائلة أحد أصدقائي الأكولين. إنّ القهوة تكاد تكون محرَّمة في بيت صديقي، فالشاي له حصة الأسد في كل مأكول ومشروب وقبله وبعده، ففي كل ركن من أركان البيت هناك فرد يحتسي الشاي ويتمطَّق بقوة، وكم كانت صدمتي عندما رأيت الإبريق الذي يعدّون فيه الشاي، فقد كان مليئًا بالكدمات والندبات ويتأفَّف طوال الوقت ولسان حاله يقول: "ارحموني وأطفئوا هذه النار اللعينة أيها المجانين". وكم أشفقت على هذا الإبريق المسكين لأني أعلم أنه لم يحظَ بجلسة مريحة منذ سنوات طويلة، فهو دومًا فوق النار ولا يشعر بآلامه إلا بعض الضيوف الرحماء. ونتيجة للإدمان على الشاي أصبح جميع أفراد هذه العائلة يعانون بين الفينة والفينة إمساكاً حاداً ومعظمهم يتعاطون أقراصًا مليِّنة، كما تربطهم علاقات متينة بأطباء الجهاز الهضمي على مستوى البلدة.
إنّ الحرب على القهوة ليست وليدة اليوم، بل هي حرب قديمة موغلة في القدم، حتى أنّ هناك من العلماء من حرَّموا شربها في ذلك الوقت ومع شديد الأسف. لكن ردّ عليهم علماء عصرهم، وعلى رأسهم الشيخ فخر الدين أبي بكر بن شرف الدين الشافعي رحمه الله، والذي ألَّف رسالتين في الردّ عليهم، فكانت الرسالة الأولى بعنوان "إثارة النخوة بحكم القهوة"، والثانية بعنوان "إجابة الدعوة بنصرة القهوة". فمن لك أيتها القهوة في زمن قلَّت فيه النخوة؟!