من يربي أطفالنا؟
من منّا لا يتذكر طفولته؟ حيَّه ومدرسته، أسرته وأهله وأصدقاءه، صباه ومراهقته؟ هل هي مجرد ذكريات جميلة، أم بائسة، أم مجرّد خليط منهما والسلام؟
تعود بنا الذاكرة إلى زمن الطفولة السلسة، حينما كان المجتمع ككلّ يساهم في احتواء الأطفال وتقويمهم وزرع القيم الأخلاقية والسلوكية والعقائدية فيهم. كنا متشابهين مع أقراننا في معلوماتنا وتجاربنا. كانت أخلاقنا تتشابه، وقصص العظة والعبرة تنتقل من بيت إلى آخر بذات المعاني، مهما تعدّدت اللهجات أو اختلفت التفاصيل. كان الجميع يصلّي بذات الطريقة، ويدعو بذات الأدعية، ويتحلّى بذات الأخلاق (ومن يشذ عن القاعدة يوصم بالعصيان). ففي السابق، كان العيب عيباً لدى الجميع، فلا نجده في بيتٍ ما عيباً وفي مكان آخر تصرّفاً مقبولاً!
كان أطفال الحيّ كلهم يدرسون في ذات المدرسة إلا في ما ندر، والمناهج هي نفسها في جميع المدارس، أكلنا في المدارس يتقارب في المحتوى والنوع والكمية، نرتدي ذات الزي المدرسي، نتابع ذات الفيلم الكرتوني في ذات الساعة من اليوم، كان المعلمون يعطوننا وقتاً أكبر وأفضل، يستمعون إلينا ويشجعون مواهبنا، ويشعرون بالمسؤولية تجاهنا، بينما أغلب المدرسين اليوم لم يعودوا يلتزمون المناهج المنهارة والمهترئة أصلاً.. وصار كلّ منهم يطعمها بمزاجه وشطحاته.
اتسع الفضاء وصارت الأحياء تكتظ بالجيران، لكنك قد لا تعرف أصلاً من يسكن معك في ذات البناية، وما الذي يمكن أن يحدث لأطفالك إن نزلوا على السلالم بمفردهم. كلّ أسرة لها توجّهها الخاص في تربية أبنائها (سواء أكانت محافظة أم متحرّرة، متشدّدة أم لا دينية أم أيّ شكل تختاره)، ثم نقذف بأبنائنا إلى المدارس، فيحدث تلاقح كبير بين أفكارهم وسلوكياتهم مع أقرانهم، وحتى معاجمهم اللغوية الخاصة.
أيضاً، زحفت القنوات الفضائية إلى حياتنا، تسلّلت إلى بيوتنا، تربعت معنا على موائدنا، حتى الأكل اختلف عشرات المرات عمّا كان، وتعدّدت ثقافته وتنوعت، والفضل يعود بالطبع لقنوات الطبخ المتعدّدة. نحن جيل الفيلم الكرتوني الواحد، حينما جئنا نربي أطفالنا (لسوء الحظ أو لحسنه) وهم جيل التطور الرقمي والذكاء الاصطناعي، واجهنا الفجوة العظمى بين ما نشأنا عليه وبيئة أبنائنا وعصرهم، جيل الانطلاق السريع، وذلك بعد أن دخلت القنوات الفضائية بقوة وتعدّدت، وصارت البرامج وأفلام الكرتون على مدار الساعة.
شبكة الإنترنت تعرّض الأطفال لطائفة من المخاطر والأضرار، بما في ذلك الوصول إلى محتويات مؤذية، والاستغلال والإساءات الجنسية
لم يأخذ الحديث عن أضرار التلفاز على الأطفال وقتاً حتى سحب الإنترنت البساط من تحته، وصار قبلة الأطفال الأكثر رحابة وإمتاعاً وحرية وإغراءً. فقد صرّحت "اليونيسف" بأنّ أكثر من 175000 طفل يستخدمون شبكة الإنترنت للمرة الأولى في كلّ يوم يمرّ، أي بمعدل طفل جديد كلّ نصف ثانية. وحذرت المنظمات المعنية بالأطفال من أنّ شبكة الإنترنت تعرضهم لطائفة من المخاطر والأضرار، بما في ذلك الوصول إلى محتويات مؤذية، والاستغلال والإساءات الجنسية، والتنمّر الإلكتروني، وإساءة استخدام معلوماتهم الشخصية.
يفرح بعض من الأهالي بهذا الترف الذي وفروه لأطفالهم، متناسين أخطار الألعاب الإلكترونية التي تسبّب تشتّت انتباه وفرط حركة وشحنات كهربائية في الدماغ والتأتأة وتأخر النطق. وفي لقاء مع الدكتورة إيمان فاروق، اختصاصية المخ والأعصاب والطب النفسي في مستشفى الساحل التعليمي في القاهرة، قالت: "لهذه الأجهزة المحيطة بالطفل سلبيات ومخاطر، فهي تؤثر في نمو الدماغ بشكل سريع عند الأطفال، لأن التعرّض لها بشكل مبالغ به يؤدي إلى ضعف مهارات التواصل والتعلّم واللغة من البيئة المحيطة، وظهور مشاكل في السلوك واضطرابات نفسية مثل ضعف التركيز وتشتّت الانتباه، ما يجعل الطفل عصبياً ومتوتراً، وحتى عدوانياً. ويؤكد الاستشاريون النفسيون تأثير هذه الأجهزة ببنية الطفل الاجتماعية، وأنّ الأجهزة الحديثة تمتلك خاصية سحب الطفل من محيطه الاجتماعي، وبالتالي إذا استمر هذا لسنوات من الممكن أن يكون لدينا أطفال منعزلون وغير اجتماعيين".
وتؤكد الدكتورة نفسها أنّ الطفل يكتسب في المراحل العمرية الأولى أكثر مهارات التواصل والتعلم واللغة من البيئة المحيطة به، لذا إنّ استخدامه للأجهزة الذكية لفترات طويلة يشكل عائقاً لديه في عملية التعلم، فهو بحاجة إلى أن يتحاور ويرى ملامح وتعابير وجه الشخص الذي يتحدث معه ويستمع إليه وأن يرى وينتبه لكيفية التعبير عن الانفعالات والمشاعر حتى يكتسبها ويتعلمها، وهذا الشيء غير متوافر في هذه الأجهزة الذكية.
إننا كأمهات وآباء لهذا الجيل الذي فتح عينيه على التكنولوجيا المتسارعة، أخذنا سنوات من أعمارنا لنلحق بها ونفهمها، نعيش حالة صراع تشعرنا بالتخبّط في بعض الأحيان، بين ضغط المجتمع والأقران من جهة، ورغبات أطفالنا التي يعزّ علينا قمعها أو تجاهلها من جهة أخرى، وذلك كي لا يشعروا بالحرمان والدونية والنقص مقابل ما يجده أقرانهم، فنعيش ضغطاً لتقنين وقت الفضاء الإلكتروني الذي يشدّ أطفالنا، إذ صار وقت الفراغ الذي يقضيه أطفالنا مرعباً وبحاجة لمتابعة وإشراف أكثر من الوقت الممتلئ، كذلك صار للأطفال أعلام وقدوات يعجز الآباء عن اللحاق بهم، لنجد أنفسنا في نهاية المطاف، بحاجة إلى فلترة لأدمغة أطفالنا مما هجم عليها وعلق بها نهاية كلّ يوم.