ناصر وصدام وحافظ وبشار والمنحبكجية
القاسم المشترك الذي يجمع بين القسم الأكبر من حكام الدول العربية هو الاستبداد.. ولعلمكم: الاستبداد قرين الحمق، والغباء، والتخلف، ولكن، للحقيقة والتاريخ، الفئة الأكثر "حيونة" في المجتمعات المحكومة بالاستبداد هي فئة المؤيدين للحاكم المستبد الذين يعرفون بلقب: المنحبكجية.
مثلاً؛ أنت تكون جالساً في مكان عام، ويتقدم أحد الحاضرين ليفتح حديثاً. أو كما يقول أهل إدلب (يشقّ نَغَم). يتنحنح، ويحرك يده محاولاً التحضير لجو من الإصغاء، ثم يقول: بدكم الصراحة يا جماعة؟
تتجه أنظاركم إليه، وتنتظرون منه قولَ كلامٍ (أو شقَّ نغمٍ) مهم، وإذا به يقول: يا شباب ما في متل السيد الرئيس!
وعندما يلاحظ تراجع اهتمامكم بحديثه، يرفع صوته، ويضاعف من حركات وجهه ويديه ويقول: بعرض أختي، أنا شقد شفت ناس، لكن أذكى من سيادة الرئيس ما شفت.
ويبدأ بسرد بعض الأعمال القذرة التي (اقترفها) حافظ الأسد، في يوم من الأيام، على أنها إنجازات خارقة!
هذا الحديث كان يسبب لنا، عندما كنا في سورية، إحراجاً كبيراً، ففي الجو المخابراتي المرعب الذي كان سائداً لا يمكنك أن تعارض هذا الشخص التافه، المزاود، فتسأله -مثلاً- عن عدد رؤساء العالم الذين التقى (حضرتُه) بهم، واطلع على شخصياتهم وأعمالهم عن قرب، واستنتج، بعد المقارنة، أنه لا يوجد مثل حافظ! وأنت لست مستغنياً عن نفسك وزوجتك وأطفالك حتى تقول له إن حافظ الأسد رجل عسكري، مسطح، وضحل من ناحية العلم والفكر والثقافة، وإن تصرفاته، خلال ثلاثين سنة التي أمضاها في حكم سورية، مخجلة، وأنه اعتلى سدة الحكم عندما كانت سورية تعاني من استبداد بسيط، فحَوَّلَها إلى دولة استبدادية بشكل شامل ومطلق، وأن سياساته التي تعجب هذا الرجل العَلَّاك هي نفسها التي أوصلت سورية إلى الدمار.
قد يكون هذا "العَلَّاك" رجلاً مبتدئاً في عالم التشبيح، لا يعدو كونه عضوَ فرقة حزبية في بلدة نائية، أدرك، بفطرته، أن الصعود على سلم المناصب يحتاج إلى هذا النوع من الدجل.. ولكن الأمر الأسوأ هو أن يجلس شخص منمَّر (أي ذو منصب رفيع)، ويحكي مثل هذه الترهات.
عمت المظاهرات البلاد، إعجاباً بهذا القائد الحكيم الذي يريد سحب الذرائع من الاستعمار والإمبريالية، ويستقبل جواسيسهم، ويحقن، بذلك، دماءَ الشعب العراقي، ويجنب العراق الحرب
دعينا، ذات مرة، أنا وصديقي الراحل تاج الدين الموسى إلى محاضرة في المركز الثقافي بإدلب، لرجل شهير جداً، من دولة عربية شقيقة، كان الرجل يظهر على القنوات الفضائية، ويكتبون في بروفايله أنه عضو الحزب الفلاني في بلده، ورئيس تحرير الصحيفة الفلانية (وهي صحيفة مشهورة جداً). وصلنا المركز الثقافي متأخرين حوالي ربع ساعة، واتجهنا إلى قاعة المحاضرات، سمعنا صوت تصفيق مرتفع جداً، اقتربنا من الباب، انتظرنا حتى توقف التصفيق، وإذا بهذا الضيف العتليت كان يمدح حافظ الأسد ببرودة أعصاب مُفلقة. تاج الدين قال (تفو)، دون أن يستطلع المكان، وأما أنا فقد تَلَفَّتُّ، وعندما لم أجد أحداً بالقرب منا، بصقت، وغادرنا خائبين.
في حوار بين معارض لنظام ابن حافظ الأسد، ومؤيد له (منحبكجي). دعا المنحبكجي الله تعالى أن يحفظ بشار الأسد لسورية، فتساءل المعارض متهكماً: الله يخليه لسورية؟ يعني هل يعقل أن يأخذوه منا؟
فرد المنحبكجي بانسجام كبير مع النفس: طبعاً بياخدوه. ليش ما ياخدوه أخي؟ هني في ألمانيا وسويسرا والدانمارك ممكن يلاقوا متل الرئيس بشار؟
رد المعارض بانسجام كبير مع النفس أيضاً: ولا في كل أنحاء العالم ممكن تلاقي متله.
في إحدى ندواته على اليوتيوب يروي الأديب المصري د. علاء الأسواني حادثة صغيرة ولكنها معبرة، تلخص عبقرية عبد الفتاح السيسي، ملخصها أنه وَقَّع مع أثيوبيا اتفاق مبادئ يوافق فيه على بناء سد النهضة الذي يخنق مصر. السيسي استضاف رئيس وزراء أثيوبيا الذي لا يجيد اللغة العربية، وجعله يحلف يميناً، باللغة العربية طبعاً، على أن أثيوبيا لن تعمد على استخدام السد في خنق الشعب المصري!
ويروي، كذلك، في إحدى ندواته المهمة، حكاية عن جمال عبد الناصر، يمكن اعتبارُها مرجعاً لكل منحبكجية الرؤساء العرب عبر العصور، هي التالية: بعدما قام ضباط سوريون بالانقلاب على الوحدة الثنائية بين مصر وسورية سنة 1961، قال جمال عبد الناصر مخاطباً الجماهير التي تؤيده: أمرتُ قواتنا المسلحة بالتوجه إلى الإقليم الشمالي، (سورية) للقضاء على الانفصاليين، وإعادة الوحدة.
استغرق المنحبكجيون زمناً طويلاً بالتصفيق والتهييص، وراحوا يعيشون هذا القائد العربي الشجاع الذي يضرب المتآمرين بيد من حديد، ويحافظ على الوحدة العربية. وعندما سكتوا قال عبد الناصر: ولكنني فكرت في الأمر، ورأيت أن هذا يعني أن تقومَ قواتٌ عربية، بضرب قوات عربية أخرى، وأنا لا أقبل بأن يضرب عربي عربياً آخر مهما كلف الأمر..
فاشتعل التصفيق والتهييص والتعييش حوالي خمس دقائق أخرى لهذا القائد الذي يحقن الدم العربي مهما كانت الظروف!
(انتهت حكاية عبد الناصر والانفصاليين).
هل تتذكرون، إخوتي القراء، الأيام التي سبقت الغزو الأميركي للعراق 2003؟ يومئذ قررت الأمم المتحدة إرسال فريق من المفتشين الدوليين للمنشآت العراقية التي يشتبه بأن فيها أسلحة كيماوية. رفض صدام حسين استقبال المفتشين، فعمت المظاهرات العراق، تأييداً للرئيس الشجاع الذي يتحدى الاستعمار والإمبريالية، ويرفض استقبال هؤلاء الجواسيس.
صدام وافق، بعد وقت قصير، على استقبال المفتشين، فعمت المظاهرات البلاد، إعجاباً بهذا القائد الحكيم الذي يريد سحب الذرائع من الاستعمار والإمبريالية، ويستقبل جواسيسهم، ويحقن، بذلك، دماءَ الشعب العراقي، ويجنب العراق الحرب.
يا رب. هل سيأتي يوم تتخلص فيه هذه البلاد من هذه العاهات؟