نكتب… لنؤمّن شيئاً من دفء الشتاء
يردّ صديقي (وهو كاتب وشاعر) باستهجان حين أخبرته بالمقالات المنجزة والمقبولة للنشر في عدّة مواقع. وبالرغم من أنّ التواصل كان إلكترونياً، حمّل الأثير رسالة صوتية، وكدتُ أراه فاغراً فاه يبالغ بفتح عينيه: "من وين بتجيبي كل هالأفكار، وكيف عندك كل هالطاقة، طيب ليش أنا من يوم الزلزال ما عم يطلع معي شي؟!".
خضتُ وإياه نقاشاً مطوّلاً حول الكتابة، إذ يراها حالة شعرية خاصة جداً، تتطلب التجلّي، وتستنزف طاقة هائلة، ولابأس من فترة كمون لتنضج أفكار جديدة تتوسّد جملاً مكتملةً كالبدر، فحالة الكتابة تتطلب كلّ هذا وأكثر.
لم أخالفه الرأي، لكني زدتُ سؤالاً، عطفَ آلية التفكير كلّها: "وماذا لو اعتبرناها مهنة ككلّ المهن؟". لم يجب صديقي، فتابعت: "أنا مثلك تماماً، أعدّ للنص بكامل الجهوزية مصادر موثوقة، عباءة الصياغة المتأنية، وضوح يضيء كشّافاً، وتورية تحترم عقول، ثمّ إنّ خاصيّة الإبداع تستنزفني بالكامل، هنا قد أكتئب فعلاً".
فسّرتُ كيف أنها مسألة تعوّد، فإن مُرّن الذهن على الإنتاج المستمر سيُطاع بالفعل حتى لو رفعتَ سقف الجودة لأعلاه. بالنهاية أنتَ تحفر وتزيّن قطعة خشبية سيُكتب عليها اسمك، ولن يكفيك الأعلى قراءة، بل أن يحزر القارئ أنك أنت من خلال أسلوب الافتتاحية، ولربما قبلها من العنوان! دون الحاجة ليعرّج على الاسم.
انتهى الحديث بانتقال عدوى الحماسة، تلقّاها صديقي لكتابة مادة على الأقل وتسليمها، بينما خلدتُ إلى نفسي: هل أكتب حقاً من أجل الكتابة؟ أحب تلك الحالة وأستثمرها لراحة نفسية كأيّ مبدع أو فنان يرسم، أو نجار ينجز باباً، يمارس شغفاً يحبّه، لكن سأكون كاذبة كبيرة إن قلت ذلك، وهنا لا أسخّف شعور الرضا الذي تمنحه أيّ ممارسة إبداعية، الصحيح سيكون كما قال الحلاج: "إنه دلالٌ أطيقه" ولحذف "اللا" هنا فخّ نصبته البلاغة، أضيفُ إلى ذاك الترف عبئاً يثقله ويغيّر ملامحه، كما فعل بنا نحن السوريين.
نبيع كلماتنا مع فواصلها المنقوطة، وعلامات التعجب التي لم تعد تدهشنا
الحياة باتت مستحيلة ها هنا، كبكتيريا جرّبت كلّ أنواع التكيّف؛ البيئة الحاضنة تنبذها رغم الرطوبة والتلوّث وكل ما يستلزم لنمو سلالات جديدة من الجراثيم، إلا أنّها عصية لدرجة خنقت الحياة بأشكالها كافة، نعم نبدع بالإكراه! وهل هناك بديل؟ علينا أن نكتب لنؤمّن دفء الشتاء الأقسى من زوجة الأب، نؤمّن منظومة طاقة شمسية ترحمنا من حرّ الصيف في هذا الكوكب المتطرّف حدّ الجنون المناخي، أما المؤونة المتزامنة مع افتتاح المدارس، فتحتاج لأن نجتاز جائزة نوبل للإبداع حتى نتمكن من تعبئة مرطبان "مكدوس" أو نجفّف قليلاً من البامية.
يقول صديق آخر: "خذي هذا الإيميل جربي معن". مختار المواقع كما أسميته يوزّع "إيميلات" التحرير كما يوزّع بابا نويل الهدايا، إلا أنّ الفارق هنا، أنه بابا نويل يوزّع مؤونة لا هدية، فالهدية يمكن الاستغناء عنها إن لم تأتِ.
يبرّر الصديق بالأحوال المادية المزرية، لذا الكل دونما استثناء يحتاج تلك العناوين، واليوم ألاحظ طغيان الكتّاب السوريين في المواقع، لربما "فرق العملة" كما يسميه البعض يدفعهم أكثر من باقي الجنسيات، فتكون هبة المقال مجدية، ولو زيفاً.
نبيع كلماتنا مع فواصلها المنقوطة، وعلامات التعجب التي لم تعد تدهشنا، نفترىش الرصيف لكان وأخواتها، وندلّل على الضمائر المنفصلة علّها تلقى رواجاً، إلّا الشدّات، لا نفرّط بها، تعيننا على نوائب الدهر.
نكتب عن أشياء مستحيلة: كمضاجعة صيف لقبّة حرارية مع انقطاع كهربائي، أو نحصي أطفالاً يموتون وهم نيام في حضن كانون، عن خواتم الخطوبة في أصابع متفحّمة ضمن حافلة عسكرية، عن أطفال يشمّون الغراء لينعموا بحياة في الملكوت، علّهم يلتصقون بجدرانها للأبد. نجدل من غضبنا ويأسنا وخوفنا ضفيرة، نرسيها بالبحر تتعلّق بها جثث وأحلام، ننقّح غصّاتنا مراراً ونرسلها.
نسهر حتى الصباح نشهد الذي لم يُخلق بعد، نفتح كلّ الصناديق… نصبّ أفكارنا خارجها، فالمنافسة الفكرية باتت في ذروتها، وإن لم تُقبل المادة يعني ملامح طفل تأجّل حذاؤه إلى ما بعد العيد.
كتبَ أحد المحررين أنّ الكتّاب ينقسمون إلى: مخضرم، ومزاجي، وشغوف، ومن يكتب من أجل المال، وأنه شخصياً يفضّل الأخيرين، لكونهما يجيدان النص بحركاته وحبكته، يغربلونه جيداً من الأخطاء الإملائية والنحوية، راجيَين قبوله، فيسهل تحريره.
إن لم تُقبل المادة يعني ملامح طفل تأجّل حذاؤه إلى ما بعد العيد
تكتب زميلتي مادة رسمت من خلالها غيمة فرح لأنها ابتاعت دراجة لابنتها، لم تصف فرحة الطفلة، بل وصّفت فرحتها هي، نعم فالفرح بات مكلفاً في هذي البلاد.
الإبداع لم يعد خياراً ولا هواية، هو فرض عين ولا كفاية فيه. يساهم بالقليل من سدّ الاحتياجات، لكن لا يعوّل عليه كما باقي البلدان.
أذكر جيداً ليلة الزلزال، كنت مستيقظة، وراح البيت يؤرجحني دون حبال، لم أعِ يومها ما الخطب رغم تصفحي لبعض الأخبار التي ظننتها (بمفعول الرعب) قديمة، وحين علمت بشدّة الزلزال لم أجرؤ على النوم، خدّرت الخوف بالكتابة، وقلت في نفسي: "يا بنت هيك هيك فايقة، اعملي سَبق وابعتيه الصبح". شرعتُ بالبحث عن المصادر وقراءة كلّ ما يتعلّق بالزلازل بدمٍ بارد، أتتبع معلومات قد تفيد إن باغتت المنطقة هزّة ارتداية، ولربما فعلتْ ولم أنتبه! طفلي أهزّه على قدمي، وكلّما استفاق أزيد السرعة، صرختْ بطارية التابلت مع خيوط الفجر، ولا بديل، ولا كهرباء، لكني تحايلت عليها لحين أنجزتُ المقال، قليل من الشحن يا رب ويصل لصديقتي التي تنعم بكهرباء المغترب، تحوّله ملف "وورد" وأسلّمه قبل أن يسبق أحد ويأكل البندق.
لم تكن الفتاة قد استيقظت بعد، أخبرتُ المحرّر به وأرسلته دون ملف، نُشر بعد ساعة وحصل على أعلى قراءة.
وبقيتُ أنا عاجزة. أفرح أم أحزن؟ كيف لي أن أقتات على دمار البيوت والناس ما زالت تحت الأنقاض! يعتريني الخجل كلّما مررتُ بصفحة صديقٍ عنوانها بلون الحداد بعد أن خرس الكلام، لكن لابأس ها هو الحانوتي يعتاش من قبور الموتى!
يضحك بُنيّ في كلّ مرّة يراني أصرخ: "يس! أعلى قراءة". يسألني: "هاد نفسو اللي كتبتيه وأنتِ عم تنيمي أخي؟ خلصتي شحن، تبكي؟".
نضحك سويةً وأردّد في كلّ مرّة: "يُولد الإبداع من رحم المعاناة".
إلى أن قال لي: "ماما! أنت عظيمة، كنت مفكّر الكتّاب لازم يقعدوا على طاولة وكرسي بجانب شبّاك يطلّ على أشجار وزقزقة عصافير، مع فنجان قهوة يتأملوا ويكتبوا". ضحكت وأجبته: نعم هو ذا، لكن الظروف قد تبدّل المقاييس، بيد أنّ النتيجة لا تتغيّر، هي دائماً للأفضل.
"لا عليكِ، أنتِ حقاً عظيمة" ثم خلوتُ إلى نفسي دون خجل أو تواضع يستدعي النكران، ما نفعله شيء خارق للطبيعة ليس إمتاع القارئ فهذي مهمة الكتابة؛ بل نجاهد ليصل نشوته الفكرية، نمنحه جرعة نيكوتين بعد أن علم بنفاد علبة سجائره الساعة الثالثة فجراً حيث المتاجر المغلقة، نُخفي عنه كلّ الظروف القاسية التي كابدنا، ليخرج له النص وبيده سيجارة من نوعه المفضّل، وباليد الأخرى ولّاعة.