نوستالجيا المواسم
عبد الحفيظ العمري
في زمن الحروب، تتمدّد مساحة النوستالجيا بقدر سوء الوضع، لذا لم يعد جميلاً في هذا الواقع الذي "يقع" على رؤوسنا إلا صوت المغنّي أبوبكر سالم، وهو يُعيد لنا ذكريات الأمس البعيد، فنسمعه ونحن نتطوّح كالسكارى، وكذلك، تبقت قصائد الحب القديمة، تلك التي تحرس البلد المريض من الزوال! (مع الاعتذار لمحمود درويش).
أما الأمسيات الحزينة، فقد راح الوطن يقضيها مستخدماً ألواح الطاقة الشمسية المناضلة مثل جندي شجاع، تُرك وحيداً في ميدان المعركة المُوغل في الظلام!
ها نحن "نخربش"على "فيسبوك" آلامنا على هيئة كلمات، نرقّمها على هذه الصفحة التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، فما هي سوى نفثة مكروب على خط نت رديء!
اليوم، قد صرنا كلّنا "دون كيشوت" في معارك "فيسبوك" الرقمية، صدقوني: لا يوجد بون شاسع بين مؤسّس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ والكاتب الإسباني ميغيل دي سيرفانتس!
***
يا صديقي، النوستالجيا هي كلّ ما عاد بأيدينا. إنّي أستمع الآن لرائعة الأستاذ مطهر بن علي الإرياني، ابن اليمن البار (هيّا نغني للمواسم)، فأحسّ برائحة العشب تملأ أنفي، واهتزاز الأشجار متطوّحة ذات اليمين وذات الشمال مع رياح شباط التي باتت تلوك النافذة، كما يقول مولانا البردّوني!
أعنفَ العشق هو عشقُ التراب، وكلّ هوى لسواهُ ضياع
وبعدها تأتي مواسم نيسان، التي عادت وستعود دائماً بالرغم من رحيل منْ تغنّى بها، إنه ذلك الفنان الذي استدعى ابن الأرض اليمنية الأسطوري، علي بن زايد، لنردّد معه:
ما يجبرْ الفقر جابر
إلا البَقَرْ والزراعة
وإلا جمالٍ تسافر
تِقْبِل بكل البضاعة
وإلا القلم والدفاتر...
إيهٍ يا صديقي البعيد القريب، هل تذكر هذا الأوبريت؟ عندما كنّا نضحك من دور الممثل/المزارع الذي كان يقفز متمايلاً أمام الفنانة مايسة الكتف، وهو يردّد: "شريكته في القضية"!
لم نكن ندري معناها، حتى كبرنا وجاءت لكلّ واحد منا "شريكته في القضية"، تلك القضية التي لا تكاد تفترق عن الوطن/ الأرض والتراب؛ لأنّ أعنفَ العشق هو عشقُ التراب، وكلّ هوى لسواهُ ضياع، كما يقول مولانا البردّوني.
يا صديقي، أظن أنّ اليماني مطهر بن علي الإرياني كتب هذا الأوبريت الخالد بحسّ المؤرخ والثائر معاً، وكأنه يستلهم كلماته من مشكاة مولانا البردّوني، وكلاهما من نبت هذه الأرض، بل كلنا من نبت هذا التراب، لقد قلت ذات زمن:
أنا يا دارُ نبتٌ حِمْيريٌ ... وهذي الأرضُ عاشت في صميمي!
وها أنا أقول في هذه الساعة، وفي كلّ ساعة: رحم الله كلّ نبت طاهر وعاشق لهذه الأرض؛ أمثال، مولانا عبد الله البردّوني، وأستاذنا مطهر بن علي الإرياني، وكلّ مَنْ جاراهما في حبّ هذه الأرض، وجعلنا على دربهم سائرين، ولحبّهم حافظين.
واستمع معي لهذا الأوبريت:
من "زبيد" لا "عدن" ... "أرْحَبْ" و"صَعْدَه" و"صُرواح"
تشهد أرض اليمن ... في مطلع الموسم أفراح
عاد عبر الزمن ... نيسان من بعد راح.