نُزهة الغُروب (1): في ما يموت وما يولد
أوائل الربيع، لا يكون البحر قد دخل بعدُ إلى دائرة الاستعمال اليومي للناس. هو الآن بحرٌ فحسب.
البحرُ اليومَ إلى اللون الرماديّ أقرب. هادئ، مستسلمٌ لابتلاع ما تبقى من احمرار الشمس، وهي تغرب كأشياء كثيرة نطويها مع كلّ نهار. أشياء تنسحبُ ببطء من حياتنا، ويعمل تواتر الأيام على تصفيتها بلا رحمة، فلا يبقى منها إلا غبار علاماتٍ لا يُعادُ تشكيلها إلا بكدّ من الذاكرة.
بعدد الشموس التي غربت، هناك أشياء تختفي من حياتنا. نعلم أنّ عدد الشموس التي غربت يوافق بالتأكيد تلك التي طلعت، لكن هل ينفع هذا القياس مع ما يغيب من العناصر التي تؤثث حياتنا؟
من المحبّذ أن نطمئن أنفسنا بانبثاق شيء ما ليسدّ الفجوات حين تنطمس المعالمُ التي شكّلت طرق سَيْرنا القديمة، وإلا فما حياتنا إلا مرثية في موكب جنازات. وها هو تاريخ الفكر الحديث يبدو في أحد وجوهه موكب جنازات، لا يأتيكَ منذ قرابة قرنين إلا بحديث الفواجع والنهايات: نهاية الفن، موت الشعر، موت الصورة، موت الإنسان، نهاية التاريخ، نهاية الواقع...
ما الحياةُ إذا ما تحققت تلك النبوءات؟ قد لا يعنينا موتُ كل تلك الأشياء الكبيرة إذا استمسكنا بما هو صغير، على مقاس أحجامنا البشرية. فقد لا نكترث بأن يموت الشعر، ولكن يهمّنا أن تظل لبعض القصائد نكهتها، وقد نقبل بنهاية الفن ولكننا لن نرضى أن نفقد أغنية كنا نرنّمها في طفولتنا. وماذا إذا تسلّل إلينا الشعور بأن الزمن يجرف حتى تلك العناصر الصغيرة بالتدريج، ويُرغمنا على أن نكون شهوداً على موتها البطيء.
لننظر إلى ما حولنا ونستمع. في الهواء تتطاير عشرات المرثيات وهي تعلن تهاوي العادات البسيطة والسلوكيات البريئة والسعادات الصغيرة. مُدن برمّتها تسكنها المرثيات، هل تونس اليوم كتونس منذ خمسين عاماً، هل بغداد أو القاهرة أو الدار البيضاء أو بيروت أحسن حالاً؟ لا تُستثنى في ذلك باريس أو روما أو برلين لو نعلم، هي أيضاً مدن مسكونة بالرثاء.
وكما يختفي بهاء الأمكنة، تسكن عالم اليوم حسرة على انقراض أنواع من الناس الطيبين، لم يعودوا يظهرون في مخيلتنا إلا في أعمار الأجداد. هؤلاء كانوا يؤثثون جزءاً كبيراً من العالم، ولم يعد هناك من يواصل عملية التأثيث تلك. وكما انقرضوا، أو يكادون، هناك شعور طاغٍ باختفاء المُلهمين، رسّامين وشعراء وممثّلين وغيرهم. من المفروض أن هناك من يأتي ليعوّضهم، لكن وكأنما لا أحد يأتي...
يبدو مشهد الغروب شاملاً، فالموسيقى صارت تَعجز عن إطراب الأذن، والفنون البصرية تتشظّى فلا تعرف كيف تطرب العين، أما المعمار فقد ترهّل واخترقته عوامل الفوضى واللامعنى من كل جانب. حتى الأفلام والمسلسلات بتنا لا نفتأ نتحسّر على أزمنة كانت تقدر على ملامسة أعمق المشاعر والتأثير فينا، ولا تلامس اليوم إلا القشرة والسطح. بل حتى المأكولات تفقد نكهتها...
هل هو الغروب حقاً؟ تودّ المؤشرات لو تؤكّد ذلك، ولكن الغروب غير قابل للتعميم. ذلك أن حكماء الأزمنة السابقة ذهب في ظنهم أنهم كانوا شهود عيان على أكثر من غروب، ثم استأنفت الحياة دورتها وبقي الكثير مما نعوه ممتداً في الزمان.
منذ أكثر من ستة قرون، ذهب الظن بابن خلدون أن الحضارة العربية قد دخلت مرحلة من الاحتضار الذي لا شفاء منه مع فقدان العربِ العصبيةَ التي كانت تأتي لهم بعوامل الهيمنة مُنقادةً. كان يعتقد أن عظمته الفكرية هي نفسها دليل على نهايةِ حضارةٍ، كما كانت عظمة أرسطو آخر صوت في عبقرية الحضارة الإغريقية. لكن فكر ابن خلدون ذاته كان عنصراً من عناصر تركيب مقومات إقامةِ نهضةٍ جديدة بعد قرون.
وقبله يمكن النظر إلى شعر المتنبي بوصفه مرثية مُبكّرة للعرب. محاولة استنهاض غاضبة بعد ملاحظة دبيب الموت في الجسد الفتيّ. تمسّك المتنبي بعباءة سيف الدولة عسى أن يكون البطل الذي يُبقي للعرب مكانتهم حين اختنق الخلفاء العباسيون بالقبضة القوية للقادة الفرس والترك من حولهم، وما استطاع سيف الدولة لعب ذلك الدور حتى ضاق بالمتنبي وتحريضاته، فضاع الشاعر بين الأحلام والأطماع، ثم أجهز عليه قطاع الطرق.
ابن خلدون والمتنبي، كانا على حق وهما يصفان "الموت العربي"، ولكنهما لم يستطيعا رؤية ما يولد. كان الواقع يبتكر منافذ لم يرها أكثر الناس معرفة. كانت الخشية من اختلاط الأعراق بالدم العربي فتُفقده مكانته التاريخية، ثم ها قد صارت الحضارة العربية تلك التركيبة الشاملة من هذه الأعراق. وحين أتى الاستعمارُ الغربي، كان لحظة استئناف على الرغم من كونه جاء حاملاً مشروعَ إبادة وإفناء. ولقد وُلدت نهضةٌ في أكثر اللحظات حُلكة. ومن موقعنا نحن اليوم، تظهر لنا تلك النهضة وقد تساقط الكثير من ثمارها، فهل يجوز لنا أن نتسرّع بالقول إنها النهاية. لعلها نهاية جديدة لا غير.
وذلك ما يقوله لنا الغروب: هناك شمس ستشرق غداً، وإن أثبت حكيم آخر أن شروق الشمس في يوم غد ليس سوى فرضية لا يقرّها المنطق. وحدها العادة تجعلنا "نَعرف" أن تساقط الأشياء سيرسم مشهداً جديداً. شيء ما سيولد وسننتمي إليه. بتلك الفرضيات نواصل العيش. شيء ما سيولد كل مرة.
طوبى لمن يستطيع أن يرى ما يولد...