هذا كلّه ليس حقيقيّاً

17 أكتوبر 2024
+ الخط -

في خضمّ التهديد، لا بالسجن وحده هذه المرّة، بل وصل بالأمس إلى اعتداءٍ بدنيّ. ولولا تجنّبه في اللحظة الأخيرة، لربّما أصبح ما هو أعقد، أو غير قابلٍ للتدارك. ولعلّ مقدّمات هذا الاعتداء كانت قد بدأت في الأسابيع أو الأشهر السابقة تزامنًا مع كلّ نشاطٍ أو شبهة نشاط مناوئ للعدوان على الأهل في فلسطين ثم لبنان، ولو كان كلمةً أو قصيدة، إذ بدأ مساومةً، ثم تضييقًا، ثمّ تهديدًا بعد تكفيرٍ، ثم تحقيقًا، وأخيرًا اعتداء مباشرًا .

في هذا الخضمّ، وهذا ليس مجال تحليله أو إعلان الموقف منه، أستعيدُ كعادتي في الورطات هذا النصّ السجنيّ، الذي يصفُ الحال، ويجتهدُ وصولاً إلى المآل، تمسّكًا بغير المرئيّ، واستنادًا إلى ما قام في نفسك، لا ما نُفس حواليك، ولو قسرًا.

...

عندما تخوضُ المعركةَ لسنينٍ طوال، ثمَ تَصِل. لا تتوقع أن تَصل أنتَ، إذ تشكّلَ في تِلك السنين (آخر) غيرُك. لا يشبهُك (بالضرورةِ) إلا في شيءٍ من ملامحك.

آخر تكلّسَت مشاعرَه، وفقدت قدرتَها على التطوّرِ (جُمودًا تامًا، حتى كأنّها في طريقِ التلاشي الأخير).

لا تتوقّعْ أن تفرحَ بالانتصارِ. طُولُ أمدِ الصراعِ طبَّعَ علاقتَك بالانتظارِ، قسرّا. أفقدَك الشغفَ الذي طالما سيّرَكَ إلى مُرادِك. نزع عنك اللهفة التي حاشَتْكَ عن السقوط، واستنزف فيك كلَّ طاقةٍ للتفاعل. 

عندما تخوضُ المعركةَ لسنينٍ طوال، ثمَ تَصِل. لا تتوقع أن تَصل أنتَ، إذ تشكّلَ في تِلك السنين آخرٌ غيرُك

"العدالةُ المتأخرةُ ظلمٌ محقق.."، فما اسمُه هذا الذي انقضَى فيه عشر سنين، يُقالُ لكَ فيها: "مش هَتخرُج من الانفرادي غير على ضهرك". يُقال لك "الانفرادي لعزل اللي عندهم جَرَبْ. انت جَرَبَك جُوّه دماغَك وخايفين تِعدي بقية المساجين".

 ويُقال لك "احمد ربنا إنك ما خدتش طلقة واترميت في الشارع زيّ الكلب"...

سبعُ سنين يأتي الأهلُ، فتنتظرُ خلوَّ قاعةِ الزيارةِ من المسجونين وأسرِهم؛ لتُزار.

تأتي المحاكمة، فتنتظر نقل الجميع بسيارة الترحيلاتِ وتُنقلُ وحدَكَ في مدرّعة؛ لتُحاكَم. يأتي الصُبح، فتنتظر عودةَ الجميعِ إلى زنازينهم بعد تريُّضهم، لتتريّض.

يأتي المرض (نهارًا) فتنتظر الإخطار وإخلاء العيادة؛ لتُفحَص. ويشتدُّ ليلًا، لا تقدرُ على بلوغِ البابِ لاستدعاءِ السجّان، فتزحفُ وصولًا إلى الباب أو يُعجزكَ حتى الزحفُ؛ فتنتظرُ أحدَ اثنين: الصبحَ أو الموت... أيّهما أسرع (وهما، كأنّما يتسابقانِ نحوَك، وأنتَ جامدٌ غير قادرٍ على التحرّك خُطوةً واحدةً صوب أيّهما). ولا تتوقّع بعد ذلك شيئًا على الإطلاق، ثمّ يفاجِئُكَ القادمُ (غالبًا) حدَّ التبلّد. ها أنتَ مع أُخَر.

تقَدرُ على بلوغِ البابِ لاستدعاءِ السجّان، فتزحفُ وصولًا للبابِ أو يُعجزكَ حتى الزحفُ؛ فتنتظرُ أحدَ اثنين: الصبحَ أو الموت

تركت زنزانتك الانفرادية أخيرًا (كم فات مُذ سكنتها؟). كأنَّه لم يكن لك ماض قبلها. كأنها رحم تكوّنك وخلقك. تعجزُ ذاكرتك عن العودة لمشهدٍ أنت في سواها. يعجز عقلك حتى عن بناء مشهدٍ خارجها في مناماتك الحبيسة، بل تعجزُ أنت نفسك عن مغادرتِها، رغم خروجك منها.

أقمت ستارًا حول فراشك. نسيتَ كيف تعيش مع آخرين تنتظر نومهم لتبدأ يومك، لتشعر بالأمان. وحدك. لم تكن وحدك تمامًا. كما كنت في زنزانتك الانفرادية.

تمارسُ طقوسك في استحضار الرفاق، الأهل، والأحبّة.. يتجسّدون حولك، لا وهما، ولا مجرّد طيف. تأتَنسُ بهم، تُسامرهم، تغنون معًا، تهتفون، تئنون...  ولا بكاء (منذ متى تعجزُ عن البكاء. ترى؟).

سيرى الأطباء صحبتَكم مؤشر خطر، ضلالاتٍ سمعبصرية تستوجب التدخّل، سيفزعون عند سماعك تحكي عن انضمام الصاعدين للصحبة، وستبقيها أنت طقسًا يوميًّا مقدّسًا، غير مبال بتحليلات الأطباء وتشخيصهم. تتشبّث بالصحبة والأصحاب ليلاً، كما تفعل مع الظلال على الجدران نهارًا. تتشبّث كي لا تجنّ أو تسقُط (أم أنَّ هذه أصلًا علاماتُ الجنون والتساقط؟).

….

في ظرفٍ كهذا، مكانٍ كهذا، وحدك تمامًا، ممنوعٌ من رؤيةِ أحد، لقاءِ أحد، الحديثِ لأحد. 

لا أمامَكَ إلا رفقتَك تلك.

 احمِ عقلك بالاستدعاءِ.. ولو خيالًا. 

احمِ قلبك بالصحبةِ.. ولو تخليقًا. 

احمِ نفسك، يا فتى، بتكرار التذكير:

صعدَ الرفاق برصاص الغدرِ

مُنعَ الأحياءُ بأسوار الكراهيَة

وأنتَ وحدك لم تزل.

هذا كلُّه ليس حقيقة.