هل تُحوّلنا الشاشات إلى غرباء؟

17 سبتمبر 2024
+ الخط -

في زمنٍ تتسارعُ فيه التكنولوجيا لتسيطرَ على كلِّ جانبٍ من جوانب حياتنا، هناك جيل جديد ينمو في حضنِ الشاشات. جيل يُمضي طفولته متسمّرًا أمام الأجهزة الذكيّة، حيث أصبحت التكنولوجيا، نافذته الوحيدة على العالم. وبفضل هذه الشاشات، يعيش الطفلُ في عالمٍ واسعٍ ومتنوّعٍ، ولكنه معزول في الوقت نفسه. ومع كلِّ خطوةٍ تتقدّم فيها التكنولوجيا، نبتعد أكثر عن الطبيعة التي كانت يومًا ملاذًا للهدوء والانسجام. فهل تُفسد التكنولوجيا ارتباط الجيل الجديد بالطبيعة، أم أنّها ببساطة تُعيد تشكيل مفهومنا للعالم من حولنا؟

الهويّة البيئيّة الضائعة: أين تنتمي الأجيال الجديدة؟

كان الإنسان، عبر التاريخ، مُتصلًا بالطبيعة بشكلٍ لا يمكن فصله عن وجوده. كانت الأشجار مصدر الحياة، والماء رمز النقاء، والسماء مرآة تعكس تطلّعاته. ولكن ماذا يحدث عندما يُستبدل كلّ ذلك بشاشةٍ مُضيئة؟ جيلُ اليوم قد لا يعرف قيمة شجرة حقيقيّة لأنه لم يتسلّقها، ولا يلمس الأرض لأنّه لم يركض عليها حافي القدمين. فالهُويّة البيئيّة التي كانت في الماضي جزءًا لا يتجزّأ من الوجود البشري، أصبحت اليوم مهدّدة بالانقراض.

الطفل الذي يفتح عينيه على العالم من خلال شاشته، يتعلّم عن الطبيعة نظريًا، لكنه يفتقد إلى الارتباط الحقيقي بها. الطبيعة أصبحتْ صورةً جميلةً تُلتقط لنشرها على وسائل التواصل، وليست مكانًا يُعاش فيه ويُختبر بحواسه كلّها. إنّها ليست فقط طبيعة مهملة، بل هُويّة بيئيّة تُمحى ببطء، حيث تُختصر الأرض والسماء والماء في خلفيّةٍ شاحبةٍ لشاشةٍ صغيرة.

الهُويّة البيئيّة التي كانت في الماضي جزءًا لا يتجزّأ من الوجود البشري، أصبحت اليوم مهدّدة بالانقراض

الفردية المعزولة في عصر "التواصل" الرقمي

كيف يمكن أن يصبح جيل مرتبط بالشاشات ومعزول عن الطبيعة أكثر إنسانيّة؟ في عصر يُقال إنّه الأكثر "اتصالاً" في التاريخ، نجد أنّ الإنسان أصبح أكثر وحدة وعزلة من ذي قبل. التواصل الرقمي، وإن كان في ظاهره جسرًا يصل بين الأشخاص، إلّا أنّه يُعمّق في الحقيقة الفجوة بينهم. فاللقاءات الحيّة أصبحت أقل، والمحادثات العميقة تمّ استبدالها برسائل نصيّة مختصرة. في هذا العالم الرقمي، حيث يتم كلّ شيءٍ بضغطة زر، يبدو أنّ الأطفال يكبرون وهم فاقدون للقدرة على التفاعل الحقيقي مع العالم المادي.

هذا الانفصال عن الطبيعة هو أكثر من مجرّد فقدان مكان مادي؛ إنّه فقدان للتجربة الحسيّة العميقة. فالهواء النقي، رائحة المطر، صوت العصافير، كلّ هذه الأشياء التي كانت تُغني حياة الإنسان أصبحت مجرّد تفاصيل خلفية في عالمٍ مُفلتر ومُصطنع. الطفل الذي يتربّى اليوم في حضن التكنولوجيا قد يكبر وهو لا يعرف كيف يتفاعل مع الطبيعة، ممّا يعزّز انفصاله عن جذوره الإنسانيّة.

هل الطبيعة مجرّد ترف أم ضرورة وجوديّة؟

الحديث عن الطبيعة في عالم اليوم قد يبدو للكثيرين أمرًا ثانويًا. ففي زمن تسير فيه التكنولوجيا بسرعة الضوء، لماذا نحتاج العودة إلى الطبيعة؟ أليست الشاشات والتطبيقات تتيحُ لنا الوصول إلى كلِّ شيء؟ هنا تكمن المفارقة: التكنولوجيا التي تفتح لنا العالم بأسره، تغلق علينا نوافذ الروح. فالطبيعة ليست ترفًا، بل هي ضرورة وجوديّة. إنّها المصدر الذي يستمدّ منه الإنسان قوّته الداخليّة وسلامه النفسي. بدون الطبيعة، يُفقد التوازن، ويعيش الإنسان في دوامةٍ من التوتّر والقلق الذي لا نهاية له.

 في عصر يُقال إنّه الأكثر "اتصالاً" في التاريخ، نجد أنّ الإنسان أصبح أكثر وحدة وعزلة من ذي قبل

التكنولوجيا والطبيعة: صراع أم توازن؟

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن للتكنولوجيا أن تتعايش مع الطبيعة؟ هل يمكن لجيل الأجيال الرقميّة أن يعودَ إلى جذوره البيئيّة بدون التخلّي عن مكاسب التكنولوجيا؟ ربّما تكون الإجابة في التوازن بين الاثنين. لا يمكننا أن نتجاهل التكنولوجيا، فقد أصبحتْ جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا، لكن في الوقت نفسه، علينا أن نعيد الاتصال بالطبيعة. علينا أن نعلّم الأجيال الجديدة أنّ التكنولوجيا ليست بديلاً عن الطبيعة، بل يمكن أن تكون وسيلة لتعزيز فهمنا لها.

التكنولوجيا يمكن أن تكون أداةً للتعلّم والاستكشاف، ولكن ليس على حساب التجارب الحيّة. فالطفل الذي يتعلّم عن البحار والجبال من خلال شاشة، يجب أن يُمنح الفرصة للغوص في الماء وتسلق الجبال بنفسه. التوازن بين العالمين هو ما سيحدد مستقبل الأجيال القادمة، سواء كانوا غرباء في عالم الطبيعة أو قادرين على إعادة بناء علاقة صحيّة معها.

العودة إلى الأصل

الأجيال الرقميّة قد تكون الأولى التي تعيش في زمنِ "الاتصال الدائم"، لكنّها أيضًا الأجيال التي تُعاني انفصالًا عميقًا عن جذورها الطبيعيّة. في عالمٍ يزدادُ فيه الاعتماد على الشاشات والتكنولوجيا، علينا أن نتوقف ونتساءل: إلى أين يقودنا هذا الطريق؟ ربما تكون الإجابة في العودة إلى الأصل، إلى الأرض التي حملتنا وحمتنا، وإلى السماء التي ألهمتنا.