هو ليس بشاعر... والموت شعور مُعدٍ
أقرأ كلماته المختارة بعناية، تزيّنها حركات تبوح بلبّ معاني الحديث، وأمنّي نفسي بنهاية أقل بؤسًا من الرواية التي أكاد أرى يد القدر تسطرها دون رأفة بقلبي البئيس. هو شاعر، ولكن كلماته أكثر حميمية بالنسبة إليّ من قصيدة قد يقرأها عامة الناس. يخيّل إليّ أنّه يحدثني وحدي، أنّ شعره رسالة من روحه المعذبة إلى روحي المتعبة، هو الذي يرفض أن يتورط في الحب بكلمات مبتذلة، ويرفض أن يمنح نفسه صفة الشاعر خوفًا من عمرٍ طويلٍ وقدرٍ بئيس، فمن ذا الذي يخبره أنّ ما من قصيدة تضاهي تلك الكلمات التي يبخل عليّ بها، هل تراه يتخذ الصمت خليلًا يعينه على نوبات الزمن؟ لو أنه يعرف عن بوح الوُجوم ما أعرفه؟
يروّض نفسه على الصبر استعداداً لبطولة العمر، فهو لا يؤمن برفاهية الأدب أو تسلّق سلّم النجاح. وُلد لكي يحدّق في عيني عبثية الحياة ويرى انعكاس صورته فيهما، فلا وقت للحبّ والشعر والأحلام. رَجُلٌ مثله قد اعتاد الفقد وتصالح مع حتمية موته الموعود، لا قدرة له على الحب، ذلك لأنّ التعلّق بالحياة ليس اختيارًا واردًا لمن هو ليس إلا عابر سبيل في هذه الدنيا. يقول دون أن يتحدث، إنّ الحرية مطلب ينتزع ولا يعطى، وأفهم من صمته أنه يستشعر الغدر والخيانة كما لا يفعل أحد، وأنه يراقب خيانة العالم وتخاذل مدعي العروبة أمام أحزان شعب بأسره.
الموت شعور معدٍ، قد يصيبنا ونحن لا نزال على قيد المحاولة، ونحن نغمض أعيننا طمعًا في شيء من الراحة، وقد يسرق منّا تلك الفرص الثانية الجميلة التي تجعل الحياة أقل بؤسًا وكآبةً. ولهذا، وفي أكثر من مرّة، تمنيت في صلاتي موتًا يشبه أسطورته الخالدة، ولم أفعل ذلك طمعًا في مكان ما لذكرايَ بين صفحات كتب التاريخ، بل لأنّ شهامة الموت باتت حلمًا لصيقًا بكياني منذ لمحه قلبي وقرأته عيناي.
سَأَلْتُنِي أكثر من مرّة عن: ما الذي يجعل الأدب لصيقًا بالميلونكولية (الحزن النبيل أو السعادة الحزينة) السردية لدى الكثير من الكتاب؛ بحثت في محاولاتي الشعرية التي لم تر النور يومًا عن منبع يأسي الأدبي الذي جعل منّي تجسيدًا حيًا لفكرة الفنان المبدع، المعذّب، والتي لطالما تبرّأت منها، ولم أجد سوى سراب ذكريات طفولة، وهي ذكريات ليست استثنائية أبداً. لكم مرّة حاولت جاهدة أن أترك خلفي ذلك الطابع التشاؤمي الذي بات لصيقًا بنصي الأدبي، ولكني، وفي كلّ مرّة، أيقنت أنني وجدت هدنتي مع الميلونكولية، تعود إليّ هذه الأخيرة في حلّة بهية تنسيني عهدي الأول لنفسي.
يحدث أحيانًا أن يخلقنا الحب من جديد، أن يعيد تشكيل ملامحنا، ويجعلنا نرقى من مرتبة حيوان تحكمه الشهوة إلى إنسان عاشقٍ منزّهٍ عن الغريزة
لقد كفرت بالوطن يوم أحببت الأدب، وآمنت بالمقابل بأسماء خالدة وأخرى ثورية، حيث علمني الأدب أن أعيش لأجل قضية وأموت في سبيلها ميتة شريفة، وأن أعيش من خلال حيوات يخطّها قلمي وتخلقها مخيلتي، متحدّية بذلك أقداراً لا رياح لها ولا سفن.
حين أمسكت القلم لأول مرة، وخططت أفول فكرٍ مستقل لم أكن أعرف ما يخبئه لي القدر. لو أنني كنت على دراية بأنّ الولوج في متاهة الأدب سيسوقني إلى هاوية الهوى لما كتبت يومًا. كنت لأستأصل حبّ الكتابة من فؤادي الذي بات محارباً أعزلَ لا أنصار له في معركة قدري الشقي، ولكن الحقيقة المرّة التي حاولت جاهدة أن أغضّ البصر عنها تملي عليّ شقاءً حتميًا بالكتابة.
وليس الحبّ سوى قدر شقي يزيّنه الفراغ في أعيننا لوقتٍ من الزمن، قبل أن تتضح الرؤية وتسقط أقنعة التحضّر التي نخفي بها شراهتنا الغريزية. ولكن يحدث أحيانًا أن يخلقنا الحب من جديد، أن يعيد تشكيل ملامحنا، ويجعلنا نرقى من مرتبة حيوان تحكمه الشهوة إلى إنسان عاشقٍ منزّهٍ عن الغريزة.
لربما كان رفضه لصفة الشاعر نابعًا من خوف دفين يقطن بين ضلوعه، وفي عقر فؤاده، خوف مزمن من أن يلبسه الشعر رداء العاشق.