وتكتب القصص يا عبد الرزاق!؟
رأت غلاف مجموعتي القصصيّة الصادرة عن (منشورات رامينا) في لندن على صفحتي على الفيسبوك، تحت عنوان: يصدر قريباً، وكتبت لي -وهي صديقة قديمة أعرفها من أيام الجامعة؛ وتقيم اليوم في أمستردام في هولندا، بعد أن شردتها الحرب مع عائلتها التي كانت تسكن في الجزيرة السوريّة شرقيّ نهر الفرات- في رسالة عابرة للقارات عبر البريد الإلكتروني: وتكتب القصص يا عبد الرزاق!؟ تتعجب وتسأل: ما الذي أغواني لأكتب هذه المجموعة من القصص وأنشرها؟. يا سيدتي لا أعرف بالتحديد مصدر السحر في أمثال أهل سومر في جنوب بلاد وادي الرافدين، الذين استقيت من مناهل حياتهم هذه المجموعة القصصيّة، ثمّ صغتها على نهج عبد الله بن المُقفع في كليلة ودمنة.
تزخر أمثال أهل سومر بالحكمة والموعظة الحسنة، وتنهل من نبع ثرّ، عذب، متدفق، في لوحات حياة نضرة، وكأنّها من جنات عدن التي تجري من تحتها الأنهار. نعم، حكايات وقصص وأمثال أهل سومر تنشر البهجة والشجن والموسيقى والغموض والألوان والروائح في كل مكان، ودائمًا ما يختلط فيها الواقع بالخيال دون افتعال، بل ودون أن يشعر أحدنا بالخيط الرفيع الفاصل بين ما هو حقيقي وما هو غير ذلك، دائمًا ما تأتي أمثالهم ملحميّة كأساطيرهم السّاحرة، ودائمًا ما تدور أحداثها في عوال السّحر هذا، هي غامضة، ولكن تنبض في خلفيتها جنة فسيحة لا تنتهي، ربما كجزء من ثقافة وتاريخ تلك المنطقة من العالم، شخصياتهم فريدة ومبتكرة، قلّما تجد ما يشبهها في أدب الشعوب الأخرى، هذه الأمثال تحكي قصصًا من النوع الذي تشعر بافتقاد شخصياتها بعد الانتهاء من القراءة، وكأنهم أشخاص حقيقيون عشت معهم تلك الأحداث. نعم، كان الأمر كذلك، لقد عشتُ، بكل معنى الكلمة، مع بلاد سومر وأهلها سنوات طوال أتقصّى حياتهم وما تركوه من رسائل مهمة للبشريّة، فُضّ بعضها، والبقيّة الباقية ما زالت مطمورة في التلال الأثريّة المنتشرة في وادي الرافدين والهلال الخصيب.
جهدتُ في مجموعتي هذه التي عنونتها "مدن الكلمات الصادقة"، والعنوان الفرعيّ "قصص من بلاد سومر" أن أنقل بالكلمات البهجة والشجن والموسيقى والغموض والألوان والروائح التي ميّزت أهل تلك البلاد، إضافة إلى ما وجدت عندهم من معارف في أنواع العلوم: من دين وفلسفة وسياسة واقتصاد واجتماع ولغة ونبات وحيوان وطبخ وأزياء، فحياتهم زاخرة، بكلّ تأكيد، بالعلم والمعرفة. تأخذنا القصص التي صيغت على ألسنة الحيوان إلى بلاد سومر في جنوب العراق في وادي الرافدين قبل أكثر من خمسة آلاف عام، حيث تتجلى الكلمات بكل جمالها وتأثيرها، وتُعيد إلى الحياة عبراً ملهمة ومدهشة من هذه المنطقة، حيث ازدهرت الفنون والعلوم، وأسست حضارة لا تزال تُلهم العالم حتى يومنا هذا.
من طبائع الأدب الجيّد أنّ كاتبه ينطلق من قاعدة، ويُسدّد نحو هدف، ويحمل قولاً ما، إن الجملة السّاحرة الأفضل هي الجملة الذي يُبذل فيها جهدٌ كبير
ومن طبائع الأدب الجيّد أنّ كاتبه ينطلق من قاعدة، ويُسدّد نحو هدف، ويحمل قولاً ما، إن الجملة السّاحرة الأفضل هي الجملة الذي يُبذل فيها جهدٌ كبير. تعالي معي يا سيدتي إلى هذا المثال: تخيّلي صيّاداً في أوائل العصر الحجريّ في غابة، فرغت جعبته من السّهام، لأنه وتر السّهم الأخير في قوسه، وشدّه شدّاً مُحكماً في انتظار طريدة، وفجأة يتراءى لهذا الصّياد نمرٌ مندفعُ نحوه، فهل سيصيب هذا الصّياد النمر بسهمه الموتور، أم أن على صاحبنا أن يسلّم أمره لغريمه، فيصطاد النمر الصّياد، إذا ما أخطأت السّهم الهدف؟ وبالمقابل، تخيّلي حالة أخرى، أو صياداً آخر، ومعه جعبة مليئة بالسّهام، يتراءى لهذا الصّياد، على امتداد سهل فسيح، ومن خلف مكمنه شبه الآمن، سرب طرائد متنوعة، يختار منها الصّياد ما يشاء، فإذا لم يُصب السّهم الأولى، فقد يُصيب السّهم الثاني، أو الثالث، هذه الطريدة، أو تلك.
قد تكون الحالة الأولى حالة الصّياد ذي السهم الوحيد، هي حالة كاتب القصّة. وقد تكون الحالة الثانية حالة الصّياد متعدد السّهام والطرائد، هي حالة الروائيّ. ففي القصّة، إما أن تُصيب هدفك مباشرة، وفي الصميم، فتنجو بنفسك، أي تنجح في كتابة قصّة جيدة، وإمّا أن تخطئ الهدف فتكتب قصّة رديئة.
أسألك سيدتي هل أصبتُ الطريدة بسهم واحد، وكتبتُ قصّة جيّدة على حدّ تعبير أديبنا الكبير يحيى حقي -رحمه الله- والذي اقتبستُ منه حكاية الصّياد والطريدة والقصّة وتصرّفتُ بأحداثها وزمانها، تجديها في إحدى مقدّمات مجموعاته القصصيّة التي لا أتذكّر الآن عنوانها في بلاد الغربة التي نحن فيها، حيث بقيت مؤلفات يحيى حقي الصادرة عن الهيئة المصريّة العامة للكتاب في مكتبتي في مدينة إدلب في الشمال الغربيّ من سوريّة؟ أنتظر جوابك يا سيدتي عندما تصبح مجموعتي القصصيّة في المكتبات قريباً.