وهم التعايش المشترك في لبنان
لطالما تغنّى الشعب اللبناني منذ قيامِ دولة لبنان الكبير بمصطلحات "العيش المشترك"، و"التعايش المسيحي الإسلامي"، والوحدة الوطنية، التي تبيّن مع مرور الزمن ودخول لبنان مئويته الثانية أنّها ليست سوى أوهام ومصطلحات رنّانة هدفها استمالة المجتمعات الخارجية من جهة، وخلق الشعبوية الداخلية من جهة أخرى.
فعلياً، العيش المشترك في الحالة اللبنانية هو فعل اضطراري ليس أكثر، إذ إنّه يعبّر عن مواطنين مضطرين للعيش معاً في بقعة جغرافية معينة بحكم التاريخ والجغرافيا والصراعات والمصالح الكبرى، بمعزل عن رغبةِ هؤلاء الناس.
فبالرغم من مرور أكثر من تسعة وأربعين عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية، لم يطو لبنان صفحة المواجهات المذهبية والطائفية بعد، بل ربّما ازدادت في السنوات الأخيرة وتيرة الخلافات وظهرت إلى العلن، وباتت تتمدّد، إذ تحوّلت من المواجهاتِ الناعمة في البرلمان والحكومة إلى المؤسسات والشركات، ومنها إلى المناطق والأحياء، وصولاً إلى الخلافات داخل العائلات المختلطة طائفياً عبر المصاهرة.
وبالرغم من الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي الذي يشهده لبنان منذ العام 2019، والذي يُعتبر من أسوأ الأزمات في تاريخ البلد، فضلًا عن خسائر مادية كبيرة تكبّدها الجهاز المصرفي، ناهيك عن انهيار الأوضاع المعيشية للمواطنين اللبنانيين، وارتفاع نسب البطالة والفقر إلى مستويات لم يشهدها لبنان من قبل، بقيت المصالح السياسية والشخصية للأحزاب وقاعدتها الشعبية هي الأولوية الأولى، تحت عناوين الخطر الوجودي ومصالح الطائفة. وباتت المصالح الطائفية تُعرقل المسارات السياسية إكراماً للتوازن المعنوي بين الطوائف وقادتها، وحفاظاً على مصالح الأحزاب والزعامات صاحبة التمثيل الأقوى فيها.
المصالح الطائفية تُعرقل المسارات السياسية إكراماً للتوازن المعنوي بين الطوائف وقادتها
وإذا ما نظرنا قليلاً إلى الأحداث المتتالية في السنوات الأخيرة، نجد أنّ الصراع الطائفي المذهبي يتأزّم يوماً بعد يوم، ويكاد يصل إلى لحظة الانفجار، وكان آخرها موضوع التوقيت الصيفي، واللباس على شواطئ البحر، مروراً بزينة الأعياد في المناطق المختلطة، وصولاً إلى موضوع تقديم الخمور في بعض المطاعم وامتناع بعضها في المناطق المختلطة، ووضع الموضوع ضمن خانةِ تغيير معالم المدن الثقافية والحضارية والدينية.
كما كثر في الآونة الأخيرة التلويح بتقسيم لبنان إلى دولتين أو ربّما ولايتين، (وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ المقصود من هذه المطالبات بناء دولة لبنان الحقيقية بعيداً عن السلاح واللاقانون كما يطالب أصحاب الاقتراح، بهدف العيش بأمان وسلام وسيادة واستقرار، وليس الهدف منه طائفياً ومذهبياً)، إلاّ أنّ الذهاب في اتجاه هذا الخيار سيؤدي حكماً إلى تقسيم طائفي بين المسلمين والمسيحيين، وربّما مذهبي داخل الطائفة الواحدة.
وإن أردنا التصويب على جوهر المشكلة، نجد أنّها ليست محصورة بالسلطة والمسؤولين فحسب، وإنّما بنسبة كبيرة من الشعب، الذي معظمه يحمل حقداً دفيناً في قلبه وعقله، نتيجة التربية في المنازل التي تُغذّي الغرائز الطائفية والمذهبية منذ الصغر، نتيجة المناهج التربوية والتعليمية في المدارس المحزّبة التي تُنمّي المفاهيم العقائدية في عقول الأطفال المبنية على الكره والحقد، نتيجة الأفكار الحزبية التي تُعشّش في عقول المحزبين والجماهير القائمة في أساسها على فكرة الخطر الوجودي والخوف من الآخر ومن تطوّره ووجوده.
وبناء على كلّ المعطيات والمؤشرات، يمكن القول، لا بل التأكيد، إنّ العيش المشترك أكبر كذبة يعيشها اللبنانيون، ولا يمكن تطبيقه في هذا البلد في ظلّ الخلاف الفكري والأيديولوجي حيال النظرة إلى لبنان ودوره، والتمسّك بحقوق الطوائف والمذاهب، واعتماده شمّاعة لإبعاد المواطنين عن بعضهم، لا بل وتخويفهم من التقرب والتعايش. وبالتالي، فإنّ ما يحتاج إليه اللبنانيون، لتحويل الوهم إلى حقيقة، هو أن يتعلّموا فقه الحياة والمعاملة والتسامح والأخلاق، وأن يضعوا قضية لبنان أولوية على سلم أولوياتهم، بالمعنى الوطني الحقيقي وليس الحزبي والطائفي والمذهبي.