يتدرب على (العلاك) أمام المرآة
كنت أعرف أن صديقي أبو صالح يريد مني أن أتابع سرد حكايات "أبو سليمان" الذي يجيب على كل كلام يقال له، سواء أكان كلاماً فارغاً، أو مهماً، بكلمة (علاك). قلت له:
- حلمك علي. سأوصلك إلى ما تريد. ولكني سأخبرك، قبل أن أنسى، أن الكاتب المصري الكبير الراحل أحمد رجب كانت له فلسفة في السخرية تشبه فلسفة أبو سليمان، فقد كتب في مقدمة مجموعته القصصية التي تحمل عنوان "كلام فارغ" ما يلي: الكلام نوعان؛ كلام فارغ، وكلام مليان كلام فارغ!
- رائع جداً.
- المهم، سأوصلك إلى سيرة أبو سليمان، بعدما أستكمل رسم اللوحة السياسية الاجتماعية لحياتنا في تلك الأيام. أخبرتك، في الاتصال السابق، أن وزير التعليم العالي على أيامنا أظهر قدراً كبيراً من التخبط، حينما قرر، بناء على توجيهات من حافظ الأسد، قبولَ كل الطلاب الذين حصلوا على الثانوية العامة في الجامعات، دون استثناء، وزاد في الطين بلة أنه منح الطلاب القادمين من المحافظات النامية تعليمياً، مثل إدلب والرقة ودير الزور والحسكة، بضعَ علامات زائدة عن زملائهم في باقي المحافظات.
- كان جديراً بك، يا أبو مرداس، أن تكون ممتناً لهم، فأنت من أبناء المناطق النامية، يعني كنتَ من المستفيدين من مكرمة حافظ الأسد الخاصة بالاستيعاب الشامل.
- نعم. استفدت واستفدنا جميعاً، ولكن باتجاه (أنرييه)! كان صديقي أبو الطاهر، من قرية كفر اليحمول القريبة من معرة مصرين، قد استفاد من المكرمة نفسها، وقُبِلَ، مثلي، في كلية الهندسة المعمارية.. وفي يوم من الأيام، كان يرسم مخططاً معمارياً لمحطة بترول، بناء على طلب الدكتور المشرف، وأثناء تنفيذ التصميم، وكانت القاعة مكتظة بنا نحن الطلاب الجدد، دخل الدكتور، وأجرى جولة علينا، وعندما وصل إلى مرسمه، قال له:
- كل ما رسمتَه، يا أخ محمد طاهر، خطأ.
فقال له محمد طاهر، بنبرته الفلاحية الساخرة:
- أشو عم تقول يا دكتور؟ من دون يمين أنا شايف رسمتي تحفة.
فانزعج الدكتور وقال: إشي تحفة؟ إشو نحن في متحف باب الفَرَج؟
فقال محمد: بل نحن في كلية الهندسة المعمارية، حتى الآن، ولكنني، بعد دقيقة واحدة، سأكون خارجها.
وترك الكرتونة على المرسم وخرج، وفي اليوم التالي تقدم بطلب نقل من العمارة إلى كلية الزراعة. وكانت مديرية شؤون الطلاب في كلية العمارة تقبل مثل هذه الطلبات بسرعة، لأن الكلية صار لديها فائض كبير من الطلاب (بسبب سياسة الاستيعاب).. وأما أنا، فلم أشتغل أي شيء، غادرت الكلية بعد بضعة أسابيع من بدء الدوام، بهدوء، وذهبت إلى معرة مصرين، وأعلنت أمام أسرتي أنني سأعتبر نفسي راسباً في هذه السنة، وفي مطلع السنة القادمة، سأتقدم بطلب نقل من كلية العمارة إلى كلية أخرى.
- جميل. وماذا كان تعليق أبو سليمان على مشكلتك؟
زاد في الطين بلة أنه منح الطلاب القادمين من المحافظات النامية تعليمياً، مثل إدلب والرقة ودير الزور والحسكة، بضعَ علامات زائدة عن زملائهم في باقي المحافظات
- لم أطرح مشكلتي أمام أبو سليمان، لسبب بسيط، هو أنني أعرف جوابه مسبقاً: علاك. فإذا قلتُ له إن هذه السنة راحت من عمري. سيرد عليَّ بقوله علاك. ويحكي لي أنه ترك الدراسة، وراح يشتغل في تركيب المكيفات في البيوت ودوائر الحكومة، ومع ذلك لم يذهب أي شيء من عمره، بالعكس، استفاد تجربة مهمة، عندما كان صانعُه يشير إلى صورة حافظ الأسد المعلقة في مكتب رئيس فرع الأمن، وقال له إنها يجب أن تُنقل إلى مكان آخر، فزل لسان أبو سليمان وقال: علاك. ووقتها أمر رئيس فرع الأمن عناصره بإنزاله مع صانعه إلى القبو، وهناك ضُربا بطريقة أحقر بكثير من الطريقة التي تضرب بها البغال. وقد أخذ أبو سليمان من ذلك درساً حياتياً، وهو أن البغل لا يضربه صاحبُه إلا إذا حرن، وعنطز وأسقط صاحبه عن صهوته، وعندما يرضخ البغل لأوامر صاحبه يتوقف عن ضربه، بينما بغالُ فرع المخابرات يستمرون بضرب المعتقل حتى يوشك على الهلاك.
قال أبو صالح: جميل. إذن أنت في تلك الآونة تركت الجامعة، وعدتَ إلى معرة مصرين.
- نعم. وتفرغت للدوران على كعبي في أزقة البلدة، والتدخين، ولعب الورق، وطاولة الزهر.. وكان من حسن حظنا نحن الصائعين، أن صديقنا الرائع "كامل"، كان وحيداً لأهله، مدللاً، وكان عند أهله داران، الدار الكبيرة للعائلة، والدار الصغيرة خصصوها له، يستقبل فيها أصدقاءه على كيفه.. وكامل هذا رجل كريم مضياف، وسرعان ما حمل المفتاح الخارجي لتلك الدار، وذهب إلى السوق، صنع بضعَ نسخ منه، ووزعها علينا، لكي نستطيع الدخول إلى الدار، سواء في حضوره أو في غيابه، وخلال مدة قصيرة حولنا نحن تلك الدار الصغيرة إلى ما يشبه المقهى، وكان أكثر اثنين يتواجدان في الدار أنا وأبو سليمان، وفي حال وجود اثنين فقط، كنا نلعب بطاولة الزهر (النرد)، ولكنني كنت لا أحب اللعب ضد أبو سليمان.
- معك حق، لأنه إذا ربح، أو خسر، سيقول: علاك، يعني اللعب معه يخلو من المتعة.
- بالضبط. ولكن أكثر واحد من أصدقائنا كان يتضايق من كلمة (علاك) التي يرددها أبو سليمان هو أبو الفهد.
- من أبو الفهد؟ هل أعرفه أنا؟
- لا أظنك تعرفه. إنه صديق لنا من قرية البلاطة، كان يأتي على الموتوسيكل إلى معرة مصرين بشكل شبه يومي، بهدف أن يجلس معنا، ويلعب الورق.. ولم يكن يعرف طباع "أبو سليمان"، ولذلك كان يعد للعشرة قبل أن يقول أي كلام أمامنا، وعندما يغامر ويتحدث تذهب عيناه فوراً إلى أبو سليمان متوقعاً أنه سيقول، بشكل تلقائي: علاك.
وفي يوم من الأيام، كنا في دار كامل، مستغرقين بلعب الورق وشرب الشاي والتدخين، وإذا بأبو الفهد يطلب منا أن نتوقف عن كل شيء، ونصغي إليه، لأن لديه كلاماً مهماً يريد قوله. توقفنا عن كل شيء، وأصغينا إليه باهتمام، فقال:
- نحن يا جماعة، مقصرين بحق بلدنا وشعبنا، يجب أن نعمل كلنا لإزالة الفوارق بين أهل القرية وأهل المدينة، وألا يكون هناك تمييز بين أهل المحافظات البعيدة وأهل المدن الكبرى، وبين المسلمين والمسيحيين، وبين السنة والشيعة والدروز والعلويين.. ما رأيكم؟ فسارع أبو سليمان لإعطائه الجواب الجاهز: علاك. فما كان من أبو الفهد إلا أن وقف غاضباً، وذهب إلى الباب، وقبل أن يخرج، قال موجهاً كلامه إلى أبو سليمان:
- والله العظيم عيب عليك، أنا صار لي يومين أتدرب على هذا الكلام، حتى إنني وقفت أمام المرآة، وألقيته مراراً أمام نفسي، وتأتي أنت لتقول لي: علاك؟
رد أبو سليمان باللهجة الباردة إياها: علاك!