يوم وفاة جمال عبد الناصر
تابع أبو الجود، في سهرة الإمتاع والمؤانسة، روايةَ الأحداث التي ترافقت مع التحول الجذري في حياة الإقطاعي المفلس عزو آغا، وقال إنه قرر مغادرة القرية فباع داره ذات السقف المبعوج التي تنقط الماء (توكف) طوال فصل الشتاء، بثمن بخس، وانتقل مع زوجته عزيزة هانم للسكن في مدينة إدلب، بعدما تلقيا دعماً مالياً سخياً من ابن أخته الدكتور عمران الذي نقش معه الحظ فوقَّع عقد عمل بصفة طبيب مختص بجراحة الأوردة والشرايين في الولايات المتحدة الأميركية.
أبو الجود: أول شغلة عملها عزو إنه اشترى سيارة دوزوتو مجنحة موديل 1965، وصار يسافر فيها كل يوم لإدلب، ويعمل جولة ع المكاتب العقارية، ويسأل بعض معارفه إذا عندهم بيوت للبيع، وبالفعل شاف عدة بيوت، وأكتر شي عجبه بيت قريب من قهوة الريحاني، وَرَا محطة البنزين الخاصة بعائلة قوصرة، والبيت تلات غرف وصالون، كتير مريح، في الطابق الأول، واتجاهاتُه قبلي غربي، ودفع تمنه على (دوس بارا)، أو على داير مليم، وفرشه بأحلى فرش، وبعدما صار جاهز رَكَّب عزيزة جنبه في السيارة، وطلب منها تحط إيدها في الشباك متل نسوان الأكابر.. وبعدما وصلوا البيت، وارتاحوا شوي، قال لها: اشتريت لك هالبيت في الطابق الأرضي لأنك مَرَا كبيرة بالعمر، وعندك ديسك ومناقير عظمية، وإذا بتطلعي درج بيزيد معك مرض الربو. وعلى قولة المتل: الكَبَر عَبَرْ.
ضحكت عزيزة هانم وقالت له: أنا أصغر منك بعشر سنين، وكل الأمراض اللي ذكرتها إنته منصاب فيها، مو أنا. بس بتعرف؟ كويس إنك أخدت في الطابق الأرضي، لو آخد طابق عالي كنت بدي طول النهار إسحبك وأخليك تنسند عليّ حتى ما توقع!
علق أبو محمد على السالفة بقوله: أنا كتير بحب الإنسان اللي بيمزح. هادا دليل على إنه نفسيته طيبة وما بيحب الأذى.
أبو الجود: نعم. وبعدما سكن عزو في إدلب، وخلال شهرين صار ركن أساسي من أركان مقهى الريحاني. صاحب القهوة والعمال والزباين كلهم صاروا أصدقاؤه، وصاحب القهوة حتى يخليه يكون مميز جاب أركيلة جديدة وكتب عليها عزو آغا، وقال للجرسون ما بتخلي حدا يدخن فيها غير هالآغا النشمي.. بصراحة، دخول عزو آغا خلَّى جو القهوة يصير فيه مزح وضحك ومقالب.
حنان: بظن في هديكه الأيام كانوا يضحكوا ويمزحوا لأنه ما كان في تلفزيونات، الناس كانوا يتسلوا بهاي الطريقة.
أبو الجود: رجع عزو آغا ع القهوة، الصانع غَيَّر له فحمة الأركيلة، ورجع صار يبربق. وإذ بيجي واحد من الزباين، وبيسأل: خير شباب؟ أيش صاير؟.. حكى له عزو آغا كيف أخدوا واحد إسمه أبو صطيف وأسعفوه بعدما أغمي عليه لما سمع إنه عبد الناصر مات
كمال: التلفزيون دخل سورية ومصر في يوم واحد، بتاريخ 23 يوليو/تموز 1960، وكان أبيض وأسود وكان يبث عدد ساعات قليل، وبرامجه قليلة ومو جذابة. وبالنسبة للأهالي نادراً ما يجيبوا تلفزيون ع البيت، والمقاهي ما كانوا يحطوا فيها جهاز تلفزيون قطعاً.
أبو المراديس: صح. بعدين شراء تلفزيون للبيت كان عبارة عن محنة حقيقية، لأنه كل ساعة بتضعف الصورة، وبتوشّ، وبيصير التلفزيون بده توليف، ولازم حدا يطلع ع الأسطوح ويبرم الأنتين (الهوائي)، واللي تحت يقولوا له: دَوّر دور، لأ، ارجاع بالعكس، لوقت ما تطلع معهم صورة مقبولة نسبياً. وبالنسبة لقصة عزو آغا، أنا بتوقّع انتقاله لإدلب كان في سنة 1969، لأنه حكى لنا المرة الماضية إنه الدكتور عمران خلص اختصاص سنة 1968، وبعدها سافر ع أميركا، وبعدما اشتغل في أميركا بعت مصاري لخاله عزو آغا..
أبو الجود: أنا ما بعرف في أي سنة، لكن القصة اللي بدي إحكيها صارت يوم مات جمال عبد الناصر.
كمال: عبد الناصر مات يوم 28 سبتمبر 1970 على وجه التحديد.
أبو الجود: شايف يا عمي أبو محمد؟ الأساتذة الفهمانين بيقيسوا بالميليمتر، نحن الفلاحين منقيس بالفشخة.
أبو جهاد: إنت فلاح؟ والله بعمرك ما فلحت ولا حصدت ولا رجدت ولا درست. لكن بالعلاك وقص القصص لتفلح فلاحة. معلم.
كمال: المهم يكون الواحد معلم بشي شغلة. تفضل أبو الجود. نحن تشوقنا لنعرف أيش صار بهداكا اليوم.
أبو الجود: عزو آغا ما بيحب البعثيين ولا بيحب جمال عبد الناصر، وبنفس الوقت ما بيحب الحكي بالسياسة، ومن يوم أجا على إدلب كل اللي صار يلتقي فيهم متله، بيحكوا عن الشغل شوي، وبيحكوا قصص متل اللي منحكيها نحن هون في هاي السهرة، يعني للتسلاية والفرفشة. وفي يوم من الأيام كان عزو آغا قاعد وعم يأركل في القسم الخارجي من المقهى، شاف الزباين جوه عم يتحركوا بسرعة، وعم يقولوا: أشو في؟ أشو صار؟ مين هاد؟ يا ساتر. بعدوا عنه لا تخنقوه. وبعد شوي طلع أجير القهوة لبرة ركض وقال له: يا عمي عزو أغا دخيلك. أبو صطيف غوطن (أغمي عليه) وبدنا نوصله ع المستشفى.
عزو، من دون ما يعرف مين هادا أبو صطيف المغوطن، قام فوراً وركض باتجاه الكازيه اللي صافف سيارته فيها، شغلها، وساقها لقدم المقهى، وطلع فيها صانع القهوة وتنين من الزباين ومعهم أبو صطيف الغايب عن الوعي. ومن حسن الحظ إنه المستشفى الوطني قريب، وصلوا بسرعة، ودخلوا المريض على قسم الإسعاف، أنعشوه، لحتى صحي. وبعدها أخده عزو آغا على بيته في الحارة الشمالية ورجع ع القهوة. في طريق الرجعة سأله لصانع القهوة: خير؟ أشو صار مع أخونا أبو صطيف لحتى غوطن؟
قال الصانع: أخدت الرجال وأسعفته ووصلته على بيته وما بتعرف أيش صار؟ أبو صطيف ناصري، وسمع خبر وفاة عبد الناصر، غوطن.
ضحك عزو آغا بصفاء وقال للصانع: عم تحكي جد؟ غوطن منشان جمال عبد الناصر؟ أنا علي الطلاق يوم مات أبوي ما غوطنت.. أشو هالناس هاي؟
قالت أم الجود: هاي أول مرة بسمع هالقصة من زوجي. عن جد حلوة.
قال أبو الجود: لكن القصة يا مرتي الفهمانة ما خلصت.
أبو محمد: هات لنشوف. كمل.
أبو الجود: رجع عزو آغا ع القهوة، الصانع غَيَّر له فحمة الأركيلة، ورجع صار يبربق. وإذ بيجي واحد من الزباين، وبيسأل: خير شباب؟ أيش صاير؟.. حكى له عزو آغا كيف أخدوا واحد إسمه أبو صطيف وأسعفوه بعدما أغمي عليه لما سمع إنه عبد الناصر مات.
فجأة تلون وجه الرجل، وغبق، وقال: قائدنا المفدى أبو خالد جمال عبد الناصر مات؟ آخ يا يام دخيلك.
وغمض عينيه، وغبق، ووقعت رقبته على كتفه.. غوطن!