ليلة عند جدار برلين
أحبُّ هذا المكان كثيراً. أستأنِسُ به، وبذاكرته الحيّة، تلك الذاكرة التي تشبه جوانبَ كثيرة من حياتنا وماضينا وواقعنا.
أكثر ما يلفت النظر في هذه البلاد هو الفضاء العام، بالمعنى الفيزيائي والمجازي لهذه الكلمة. هناك الكثير من الفضاءات العامة: حدائق وغابات وساحات عامة وشوارع طويلة وأتوسترادات ومتنزّهات ومساحات خضراء في قلب المدينة أو على أطرافها ومحيطها. فضاءات تمنحُك الشعور بأنّك ملك المكان، تستطيع أن تفعل فيه ما تشاء، ودون رقابة من أحد. الحقيقة، إنّ الرقابة موجودة، لكنها في حدودها الدنيا، وغير مرئيَّة في أغلب الأحيان.
أتذكَّرُ مقالةً للشاعر السوري، لقمان ديركي، ربما كان عنوانها، "ليسَ للكرديّ إلا العرس". ويتكلّم فيها، كيف أن العرس الكرديّ في منطقة الجزيرة السورية في الشمال السوري، هو المناسبة الوحيدة المتاحة للأكراد ليقوموا بنشاطات لا يستطيعون القيام بها عادة، كإقامة أمسية شعرية باللغة الكردية، أو تقديم مسرحية عن نضالات الكرد في سبيل حقوقهم.
في صباح المرة الماضية، وعند طلوع الشمس، انتبهت للصور الموجودة على الجدار. كانت معرضاً عن الحرب السورية، اسمه حرب على الجدار. صور لمدن سوريّة مدمرة، وأخرى لضحايا الحرب. أطفال ورجال ونساء فقدوا أطرافهم نتيجتها. صور تمثِّل وجهاً من وجوه الحرب. للحرب وجوهٌ كثيرةٌ تحتاج ألف معرض وألف جدار. شهداء وضحايا ومفقودون. معتقلون ونازحون ومهجرون، دمارٌ وخرابٌ ونسيج اجتماعي مُفكّك. خوف وجنون وإحباط وذاكرة مفقودة، وأجيال بمستقبل غامض. كلُّ حربٍ هي ميدوزا ذات السبعة رؤوس، هي الأسطورةُ المخيفة المدمّرة القاتلة المرعبة الصّالحة لكلّ زمانٍ ومكانٍ.
إحدى هذه الصور لشابٍّ حمصي أعرفه. التقيته في لبنان قبل سنتين، أصابت رصاصة القناص عينه ووجهه في الخالدية في حمص، حيث كان يسكن. وذهبت تلك الرصاصة بالعين وجزء من الوجه، سأسمي هذا الصديق رائد. رائد كان طاقة متفجرة من الأمل والتفاؤل والإصرار على الحياة وتجاوز المحن.
كن بخير يا رائد وين ما كنت ووين ما توجهت.
ومعَ صوت ديكٍ قادم من الضفَّة الأخرى للنهر، تصبحين على خير سورية. من عند جدار برلين، فوق العشب وتحت السماء.
(مملكة الشحاذين)
برلين مملكة الشحَّاذين، أرضُهم الموعودة، وفردوسُهم الموجود، ملوكُها غير المتوَّجين. تجدهم في كل مكان، في الشوارع، على الأرصفة ومحطات القطار، ومخارج البنوك، أشكال وألوان وأنواع من كل الفئات، ما عدا الأطفال طبعاً، فهذا غير مسموح.
نساء ورجال، شباب وكبار، ألمان وأجانب وغجر من أوروبا الشرقية. حتى هذا الصنف الذي يقترحهُ وحيد سيف على عادل إمام في "فيلم المتسول"، عزيز قوم ذلّ، ستجد منه بعض العيّنات هنا أو هناك. بعضهم يتسوّل تحت شعار الحاجة للعيش والبعض تحت شعارات أخرى، مثل المرض أو غيره. لا تنقصهم الطرافة وخفة الدم في هذا الموضع. أحدهم وضع علب التسول خاصته مع لوحة على كل واحدة، يشرح فيها أين سيذهب بالمال الذي سيُعطى إليه، هذه للطعام وهذه للبيرة، وهذه لتدخين الحشيش.
شائع جداً أن ترى شحاذاً ومعه كلب، والتسول لمعيشة الاثنين. بل إن وجود الكلب حاسم هنا. ما يميّز شحّاذي برلين، أنّ لهم حياة واحدة، ليس لهم وجوه متعددة أو أقنعة تخفي حقيقتهم أو أن التسول هو مهنة يمتهنونها صباحاً، وبعد الظهر يكونون أناساً آخرين على الرغم من التداخل الكبير أو تزاوج التشرُّد مع التسول هنا.
إذن، شحّاذ برلين هو شحاذ، وفقط حيث لا قصص أسطورية أو خرافات عن غناهم وثرواتهم السرّية، كما كنا نسمع في بلادنا، وفي الأفلام المصرية.
لطفاء عموماً، أي أنهم لطفاء في تسوّلهم، لا مضايقة أو إلحاح يستدعي نفورك منهم. استراتيجية الإلحاح، ونخر دماغ الزبون، والدخول في أنفه غير موجودة. رغم أن رائحة بعضهم المنفّرة ستدخل أنفك رغماً عنك. عدم الإلحاح هذا، مدعاة في كثير من الأحيان للتعاطف والدفع ببعض السنتات أو الفكة التي في جيبك، وهذه هي ميزتهم الأهم. إنَّهم يقبلون أي شيء تعطيه إياهم، ولو كان سنتاً واحداً. جرّب أن تعطيه سنتاً وسيشكرك. عشرة سنتات شكر مع ابتسامة خير وبركة. ليس لديك نقود وأردت أن تعطيه سيكارة سيقبل، قداحة أكيد، بقية السندويشة عظيم، نكاشة أسنان أو شوكولا أو وردة أو أغنية على سي دي. اقرأ له قصيدة فيسبوكية وسيقبل. أعطه بحثاً عن أسباب تأخر النصر، ومآلات الثورة السورية، وانكسارتها وهزائمها وسيقبل.
ويا سيدي، لو أعطيته مقالة من جريدة "البعث" أو "تشرين" السورية. سيقول لنفسه. هذه أحسن من بلاش. وربما يقبل.