ماذا لو نطق التمثال؟
سعدون واحد من بين ملايين المواطنين الصالحين في نظر الحكومة العتيدة. يسكن في آخر الشارع في شقته المطلة على الساحة التي يتوسطها تمثال القائد.
ينطلق سعدون صباحاً إلى وظيفته في المؤسسة العامة لمياه الشرب فيمر بجانب التمثال.
وفي طريق عودته عليه أن يمر بجانب التمثال.
عندما يشتهي أن يتناول كأساً من الشاي على شرفته الوحيدة المطلة على الساحة العامة ستقع عيناه على التمثال.
حتى أصبح التمثال جزءاً حقيقياً من حياته لا بد منه في تفاصيله اليومية كسترته وبنطاله وكيلوته الداخلي وحذائه القديم الذي لم يبدله منذ قديم الزمان.
كعادته انطلق إلى الوظيفة في السادسة صباحاً ووقف على الزاوية بانتظار الحافلة التي ستقلّه إلى العمل. تأخرت الحافلة وسعدون واقف وكأن التمثال الكبير قد فرّخ تمثالاً صغيراً قبالته.
بدأت الأفكار تتسلل إلى رأسه الكبير، لماذا تأخرت الحافلة؟ هل ما زال السائق نائماً حتى الآن؟ لا، لا مستحيل فهو لم يتأخر عليه منذ خمسة عشر عاماً حين قبل في الوظيفة بعد واسطة ثقيلة. إذن لربما انفجرت إحدى العجلات وهو يعمل على تبديلها. لا، ذلك غير وارد لأن الساعة الآن تعدّت السابعة، وهذا وقت يكفي لتبديل المحرك وليس فقط العجلات. ما الذي دفع السائق للتأخر إذن؟
انفعل سعدون وبدأ يغلي من داخله. وبدون أن يشعر استجمع ما تيسر من ريقه وبصق على هذه الحالة. طارت البصقة وقطعت عرض الطريق لتستقر على وجه التمثال.
حالةٌ من الذهول والخوف التي تعدّت مرحلة الرعب، اقتحمت سعدون الذي أصبح يرتعش بقوة وكأنه موصول على تيارٍ كهربائي بقوة 220 فولتاً. نظر يميناً وشمالاً ليطمئن من خلو الشارع من المارة. ثم هرع عائداً إلى البيت وهو يلتفت إلى الوراء خوفاً من أن يكون أحد يلاحقه.
فتح الباب ثم زج بجسده المنهك إلى الداخل وأغلق الباب بسرعة.
جلس على الكرسي ورأسه لا يتوقف عن التفكير. أفكار تشرق في رأسه وأخرى تغرّب وكلها ستؤدي به إلى حبل المشنقة. هل عليه أن يذهب إلى المركز الأمني القريب ليحلف لهم بالطلاق أنه لم يكن يقصد ذلك؟ وماذا لو لم يصدقوه؟ ألا يكون قد رمى بنفسه إلى الموت المحتّم؟
فجأة وقف على قدميه وقرر أن يعود إلى الشارع ويصعد على التمثال ليمسح وجهه ثم ينزل. لا لا، فذلك سيوقعه في المشاكل ويلفت الانتباه. مشى بخطوات وئيدة باتجاه الشرفة المطلّة على الساحة، لم يجرؤ على الخروج فاسترق النظر من شق الباب على التمثال ليرى ما الذي جرى بعد أن غادر.
لم يرَ شيئاً يستحق الذكر أو يدعو للخوف، لكنَّ الطريق خالية من المارّة. لماذا يا ترى؟ آه يا إلهي اليوم عطلة كيف نسيت هذا. قالها وهو يضرب على جبهته. الآن عرف لماذا لم تأتِ الحافلة، ولكنْ ماذا سيفعل بالمصيبة التي وقعت على رأسه؟
فتح باب البيت وخرج متردداً لا يدري إلى أين. فقط يريد أن يستطلع الوضع في الخارج. كانت تتسارع خطواته كلما اقترب من الساحة دون أن يجرؤ على النظر في وجه التمثال.
قطع الطريق وأوقف سيارة أجرة وطلب منه التوجه إلى الحديقة العامة. فهناك ربما تستقر نفسيته المضطربة جداً.
سائق السيارة الفضولي لم ينتظر طويلاً ليسأله عن سبب اضطرابه. سعدون كان قد سمع من صديقه أن نسبة كبيرة من سائقي سيارات الأجرة هم في الحقيقة رجال أمن متنكرين. سكت قليلاً وبدأ يفكر في جواب يخلصه من هذه الورطة.
اغتصب ابتسامةً شاحبةً ثم قال: "في الحقيقة أنا إنسان وطنيّ مهووس بالعمل. وأكره العطلة لأنها تشعرني بالتقصير تجاه هذا الوطن الحبيب الذي يجب أن لا ندخر جهداً في سبيل الارتقاء به نحو الأفضل".
لم يرق حديثه المتملق لسائق السيارة الذي شغّل الراديو على أول محطة إذاعية صادفها ورفع الصوت ليقطع عليه الحديث. فسكت دون أن يتكلم بعدها حتى وصل إلى الحديقة العامة.
جلس سعدون على المقعد المطلّ على بوابة الحديقة؛ شاب يمارس الرياضة الصباحية هنا، وفتاة تحمل الورود بانتظار حبيبها هناك. ورجل عجوز يقرأ جريدة الصباح عن آخر نشاطات القيادة الحكيمة وقراراتها التاريخية المجيدة.
يا إلهي، إنه رجل أمن يدخل من البوابة. قال ذلك وهو يحاول استجماع قوته كي لا يظهر التوتر على وجهه. بدأ يدندن ويغني أغنية وطنية يغنيها مطرب شعبي أسمر البشرة طويل الشعر قبيح الصوت. لا يهم فالموقف يحتاج إلى إثباتٍ للوطنية.
كان يحاول جاهداً، أن يتفادى النظر في وجه رجل الأمن، لكن الأخير ترك كل مقاعد الحديقة الكبيرة وجلس على نفس المقعد الذي يجلس عليه سعدون. أخرج سلاحه الفردي الخفيف وبدأ ينظفه بمنديل أبيض قطني.
قلبُ سعدون ينبض بسرعة هائلة، وهو يحاول أن يبحث عن حديث يفتحه مع رجل الأمن، لكنه لا يجد. بل يخاف أن يزلق بكلمة تكشف عن جريمته النكراء.
التفت إليه فجأة ودون سابق إنذار سأله: كيف حال السيد الرئيس؟ توقف رجل الأمن عن تنظيف المسدس ثم نظر في وجه سعدون متعجباً من سؤاله الغبي ثم عاد ليتابع عمله دون أن يجيب.
يا إلهي لم يجب. هل يعقل أن يكون التمثال قد نطق وأخبرهم بما اقترفت بحقه؟! قالها في نفسه وهو يحاول البحث عن طريقة يعرف بها، إن كان لديه معلومات عن الحادثة فعاد وسأله: "هل سبق وأن نطق أحد التماثيل "الكريمة" المنتشرة في بلادنا"؟ مرةً أخرى توقف رجل الأمن عن تنظيف سلاحه وهو ينظر في وجه سعدون المتجمد على مقعده منتظراً الإجابة. لم يجب أيضاً بل جمّع قطع مسدسه ونهض مغادراً.
بقي سعدون يعيش حالة الرعب التي لم تفارقه مدة عامين كلما مر بجانب التمثال أو طلبه مديره في العمل أو شاهد رجل أمن في الطريق أو طرقَ أحدهم الباب أو رن هاتفه المحمول، حتى قامت الحكومة الموقرة باستبدال التمثال البرونزي بآخر مصنوع من الذهب الخالص.
حينها أصبح بإمكانه السير في الطريق مرفوع الرأس مرتاحاً بل ويستطيع النظر في وجه التمثال الجديد بكل ثقة وبدون خوف، ولكنه قام بتغيير مكان انتظاره للحافلة بعيداً عن التمثال الجديد مسافة أمانٍ تبلغ خمسمائة متر تفصله بشارعين عن التمثال الجديد.