البجعة السوداء وعنق الجمل
وتتلخص هذه النظرية في الآتي: "معظم الناس لا يعلمون أن هناك بجعاً أسود اللون لأنهم اعتادوا مشاهدة البجع الأبيض، لكن عدم رؤيتهم البجعة السوداء لا يعني أنها غير موجودة بل هي هناك، ولكن لأن دماغنا الذي يعمل بطريقة بقعة الضوء، حيث يركز على ما هو مهم ويغفل الأمور الأخرى، فإننا لا نرى البجعة السوداء ولا تخطر ببالنا، ونتعامل مع الأمور كأنها غير موجودة".
استعان طالب بنظريته هذه لإثبات أن الأزمات الكبرى في أسواق الأسهم ليست وليدة لحظتها، بل هي تتشكل وتأخذ منحى معيناً، ولكن بما أننا مشغولون بتحصيل الأرباح فإننا نتجاهل مخاطر الأزمة القادمة، ثم نخسر كل شيء عندما تقع فوق رؤوسنا، وندعي أننا لم نرها. أو أنها جاءت من اللامكان وكيف حدث ذلك؟ ونُفاجأ، ونحاول تفسير ما كان أمام ناظرينا طوال الوقت ولكننا تجاهلناه وركزنا على ما هو أهم برأينا.
ما ذكرني بهذه النظرية هي حادثة استرعت انتباهي ومثلها كثير، إذ ينشر أحدهم صورة ما ثم يطلب من الآخرين التعليق عليها. وفي حالتنا هذه كانت الصورة لأحدهم وهو يصلي بشورت يظهر شيئاً من فوق الركبة.
وكانت التعليقات مذهلة، فمنهم من سبّه، ومنهم من سبّ الذي نشر التعليق، ومنهم من أبطل صلاته، ومنهم من ابتدأ الحديث عن الإيمان والكفر والاستهزاء بشعائر الدين. ومن كل هؤلاء، لم أرَ ولو تعليقاً واحداً ينظر إلى الحكم الشرعي الصحيح أو أن يحاول تقنين المسألة وتفنيدها.
في مرة أخرى كانت قراءة القرآن بقراءة ورش، بينما المعتاد عند أغلب الناس والغالب هي قراءة حفص عن عاصم. الكل تناول الموضوع وكأن هناك فقط بجعة بيضاء، لم يتحدث أحدهم عن أن هناك مذاهب إسلامية لا ترى بأساً في الصلاة بلباس يظهر الفخذين وهو مذهب المالكية، أو القراءة برواية مختلفة، لدينا عشر قراءت معترف بها وتجوز الصلاة بها.
وقد كنت لأعذر هؤلاء في زمن كان طلب العلم فيه تكلف، ولكن في يومنا هذا لا مشكلة من الوصول إلى أي معلومة، فكل أمهات الكتب وبطونها في الفقه والتفسير متوافرة ومجاناً، وهناك كم هائل من الفتاوى الجاهزة والمشابهة لأغلب هذه الحالات، ولكننا قوم نستعجل..
يتحدث علماء النفس عن نظامين يقومان بإدارة طريقة تفاعلنا وردة فعلنا على ما يحدث حولنا، النظام الأول وهو النظام الذي يتصرف بدافع الغريزة غالباً، وهو التصرف التلقائي الأول ويحاول أغلب السياسيين والباعة التحدث إليه كونه المسؤول الأول عن ردة الفعل الأولية كالخوف والجوع والإشباع.
ومعظم من قاموا بالرد على صاحب الصورة في المرة الأولى أو على القراءة في الثانية، تصرفوا بدافع من النظام الأول.
أما النظام الثاني فهو نظام دعني أفكر فيها لبرهة، وهذه البرهة تعطيك الفرصة لتناقش رأيك وتعلله، ثم تمضي به أو ترفضه، ويحاول معظم الباعة حملك على اتخاذ قرار قبل أن تفكر فيه ولو لحظة، وهي عملية توريطية في معظم الأحيان.
قديما قال الإمام علي بن أبي طالب: "لوددت لو أن لي عنقاً كالجمل لأزن كل كلمة قبل أن أقولها"، وحين يصل الأمر لتزن الأمور ضمن النظام الثاني، فإن عوامل العقل والمعرفة والأخلاق والدين تتدخل لتميل كفة قرارك بالسلب أو بالإيجاب.
إحصائياً معظم الجرائم والصراعات التي تحدث بين الأفراد سببها استعجال بعضهم في الرد طبقا للنظام الأول فيكون ردهم استفزازيا، يحمل الطرف الآخر على التصرف بعدوانية مقابلة، ثم تتطور الأمور حتى تصل إلى حد القتل أحياناً.
هذا وقد طور الإسلام نظاماً ثالثاً، هو نظام المراجعة الثالثة، إذ يعمد واحدنا إلى مراجعة ما قام به خلال النهار، بإعطاء نفسه مهلة للخروج من المؤثرات الوقتية التي تساهم في استعجاله في اتخاذ قرار خاطئ وتصحيح فعله بالاعتذار وإعادة الأمور إلى نصابها، ويجري ذلك ضمن النظام الثاني ولكن في قراءة ثالثة لما حدث.
يروي لي أحد الأصدقاء أن أحدهم كان يقوم بطلاء منزله، وقد خطر لهذا الشخص أن صلة قرابته بالعائلة وما يقوم به لهم الآن من إعادة تجديد المنزل تسمح له بأن يطلب يد ابنتهم للزواج، ولكنه لم يكن ليكون زواجاً متكافئاً، فالبنت على درجة من العلم والدين، ولا تناسب إطلاقاً بين بيئة الشخصين.
فجاء العريس إلى والد العروس وقال له: أريد أن أسألك سؤالاً، وأريد جواباً في الحال؛ إما بنعم أو لا، الآن الآن.
فقال الرجل: تفضل.
فقال: أريد الزواج بابنتك على سنة الله ورسوله.
فضحك الرجل وقال: لا، ولم يعلل جوابه.
فقال له العريس: ولكنك لم تفكر، فكر فلربما غيرت رأيك.
فأجابه الوالد: لقد طلبت مني جواباً في الحال وهذا هو جوابي.
تريدني أن أفكر مرة أخرى في الموضوع سأعطيك تعليلاً ربما قد لا يرضيك، فإما أن ترضى بقولي الآن، أو تأخذ قولي بعد أن أبحث الأمر وستكون أكثر إحباطاً لو سمعت تعليلي، فخذ بجوابي وامضي فهو أسلم لك.
في حالتنا هذه نطلب منكم أن تفكروا بأي أمر قبل أن تقوموا بردة فعل، خصوصاً إن كان ما نتحدث عنه هو دين أحدهم أو خروجه من الملة، وتذكروا دائما نسيم طالب وبجعته السوداء حتى وإن لم تتمكنوا من رؤيتها.