على الأمم المتحدة و"الجنايات الدولية" قراءة "سرير على الجبهة"
رواية "سرير على الجبهة" هي رواية صدرت حديثاً عن دار "هاشيت أنطوان - نوفل"، في بيروت، للكاتب السوري "مازن عرفة"، وهي روايته الثانية عن دار نوفل بعد "الغرانيق" الصادرة عام 2017، والثالثة له في عالم الرواية.
تتألّف الرواية من ستّة وتسعين فصلاً مرقّماً، تأخذك إلى العصفورية "الاسم المتداول شعبياً لمشفى المجانين" وتعيدك كائناً مجنوناً؛ لواقعيتها السحرية وكافكاويتها وسورياليتها الممزوجة بحالة ذاتية خاصّة، كتبها في (335) صفحة، تتناول عسكرة المجتمع السوري، وطوئفة الفكر الإنساني، لتعرّي ما في السلطة من موت وجحيم وقهر ورعب، محرّكوها وداعموها الدبّ الروسي والقم الإيراني، ولتنتقد الأديان المتناحرة، بفلسفة خفية خفيفة، داعياً من خلال الصدق والجرأة والصراحة إلى التمسّك بالمبادئ الإنسانية والفكر المدني العلماني الحرّ؛ ففيه خلاص من الظلم والطغيان.
اعلم - أيّها القارئ - أنك ستفقد حوَاسك، وأنت تقرأ هذه الملحمة المجنونة؛ للدراما التي تسكن مونولوجاتها، فتفقدك السيطرة على أحداثها، لتخرجك من أجواء القراءة إلى تأمّل أحداث واقعية عشتها ورأيتها، وتمثّلك في سطورها. رهيب هذا الألم القابع في سجونها ومعتقلاتها، رهيب هذا الوصف المطلق، رهيب هذا الأسلوب الشائك الشائق، رهيبة هذه الكوميديا الساخرة والسريالية الصاخبة، اللتان تصرخ بهما في وجه حياتك "سرير على الجبهة... تمثّلني".
تبدأ الرواية - القصّة على لسان رجل عادي مع زوجته وأولاده الخمسة السعادين، صبيّان وثلاث صبايا. رجل مسكين يقطن شقّة في إحدى البنايات الاستراتيجية من بلدة في الريف الدمشقي، لتنطلق من هذه البيئة المحلّية البسيطة كوميديا مازن عرفة السوداء إلى عالمية الحدث والتناول، هذه الكوميديا المبهرة بأسلوبها الأدبي الشائك والشيّق، لدرجة أن البسمة والدمعة تتوهان بين تقنيات الرواية المختارة بقلم روائي أكاديمي، حيث الرجل الباحث عن سهرة خميسية شبقة مع زوجته الحبيبة، عاشقة المسلسلات التركية، وابنته الكبرى التي تمصْمص ليمونة عجراء، وبقية صغاره الذين يتفرّجون على توم وجيري وباباي البحّار.
هو رجل مثقّف، مغلوب على أمره، من جهة من زوجته، ومن جهة أخرى من العسكر - الغوريلات، الذين اقتحموا أمنه وأمانه. قادر على إجراء دورات تثقيفية حزبية عقائدية سياسية، وحتى جنسية وفلكلورية وباراسيكولوجية، وحيال هذا الرجل وإمكاناته يقول مازن عرفة في الفصل الخمسين:
"... أنا الذي أستطيع إجراء دورات تثقيفية للمواطنين، ليست حزبية، وعقائدية، وسياسية فقط، وإنما أيضاً جنسية، وفلكلورية، وباراسيكولوجية. أنا الذي يستطيع تثقيفهم بالأوليغارشية، والتطهير العرقي والطائفي، وعبادة الفرد، وعبادة الرموز العسكرية، وعودة المهدي المنتظر، والإمام الحاضر والإمام الغائب، والقيامة الصغرى والقيامة الكبرى، وفتنة المسيح الدجّال...". الصفحة (162).
يسرد عرفة الأحداث بدءاً من اقتحام الغوريلات العسكرية للبلدة؛ بحجّة محاربة الإرهابيين، واقتحام شقّة الرجل العادي، واستقدامهم للمراسِلات الميدانيات وتغطيتهنّ لعملية تحرير الشقّة والبلدة من المعارضة الكونية، ثم تدشين البوط العسكري رمزاً تذكارياً وطنياً في الشقّة، قاصداً بعض المتطفّلين والاستعراضيين ممَن دعوا إلى تنظيم حملات تقبيل البوط العسكري في وجه الثورة السورية، ليمرّ الرجل العادي باختبار المواطنة الصالحة، فيصبح رقّاصاً وحماراً وقرداً، لأن عقل الجنرال يشعر بأن الناس غنم وحمير، لكنه لا يدرك حقيقة أن هناك عقلاً آخر يحاربه وهو العقل الشاعريّ والشفّاف والصادق الموجود في شخصية البطل الداخلية، يتحدّى به العالم الأول، وهنا يجب أن نميّز ونفصل بين عالمين، الأول وهو العالم الذي يعيش ويمشي فيه البطل مع الجنرال بطريقة السخرية، مع عالم آخر متحرّر في عقل البطل نفسه، وهو العالم الموازي، يعني باختصار وحتى تتوضّح الصورة فإن هذا العالم الموازي يحدث في عقل الجنرال، أما في العقل الموازي للبطل فإنه يأخذ شخصية متحرّرة شاعرية صادقة من خلال استعراض الأفلام السبعينية التي أسقطها على عالمه الحقيقي، كأنْ أراد أن يصبح الشاب عادل في فيلم (الشمس في يوم غائم)، وأنطونيو كوين في فيلم (زوربا)، والروائي صباح في فيلم (صعود المطر)، والرجل الكاوبوي «كلينت ايستوود» بطل ثلاثة أفلام (من أجل حفنة من الدولارات – من أجل دولارات عدّة أخرى – الطيب والشرير والقبيح).
لنغصْ في بواطن تقنيات هذه الرواية، ونبدأ بقراءة أسماء الشخصيات الغرائبية، التي تقف خلفها ماورائيات محزنة، يجعلك تعيشها وتسكر مع سيكولوجياتها وفيزيولوجياتها وما بينها من بلاغة ومعانٍ، فهناك "رئيس الغوريلات، الزوجة، الأولاد السعادين، سائق الباصّ ومعاونه، المراسِلات التلفزيونيات، الفتاة الهيفاء الصغيرة، مصوّر الزرافة الأسترالي، صبْيَان وصبايا الفرقة الشبيبية النحاسية، الخوري عبدو الفهمان، الأمير جورج الكافر، الشيخ حمدان الطرشان، أمين المنظّمة الحزبية للبلدة، طوني أخوان، نصف عسكري، الضابط المسؤول عن قيادة العمليات العسكرية في الشقّة، القائد العام (الجنرال)، زورو أبو الفردين، حيدر..."، هي شخصيات الرواية الثانوية، إلى جانب الرجل العادي الذي هو الراوي والبطل معاً، حيث قدّم الشخصيات إلى النصّ بخطابات وحوارات عميقة، لأن هناك عدداً هائلاً من الشخصيات تتشظّى وتحكي بضمير المتكلّم، وكأن البطل هو بطل جمعيّ، نتاج مجتمع العسكرة، ببواطنها النفسانية وظواهرها الجسمانية؛ فالواقع أجبر حياته على الانفجار والتشقّق، ولأن هذا الضمير مناسب للمونولوجات الداخلية والانفعالات الحميمية والهلوسات العصفورية وأحلام اليقظة.
يطرأ تغيير على حياة الرجل العادي – المتلصّص على بنات الجيران والولهان بمؤخّرات النسوان بإيروتيكية موضوعية، أثناء قدوم القائد الجنرال إلى الشقّة، إذ يحاول إخراج العسكر من شقّته؛ لينعم بها ويعيش فيها بشبق وأمان بعد هروب زوجته وأولاده إلى بلاد المولات والأهرامات، ومقابل حصوله على شقّته وتحريرها من العسكر، يتحلّى بثقافة الكوميديا السوداء بعد معايشته أحداثاً سريالية مُرّة في شقّته، فيشعر القارئ بأنه تخلّى عن كرامته ومبادئه وأخلاقه، فيقبل على نفسه أن يكون أداة طيّعة بيد القائد الجنرال؛ في سبيل التنعّم بشقّته مع فتيات أحلام يقظته، أو نسوان الجيران، أو بنات الشرفات، لكن عند التعمّق في القراءة سنصل إلى نتيجة أنه ليس هناك أيّ من الأفكار الدالّة على تخلي البطل عن كرامته ومبادئه مطلقاً، بل إنه كان طائر "الكوندور" الذي يحلّق في الأعالي، ليقول في الصفحة (199):
"تجتمع بي أحياناً شخصيات هرقل، وماشستي، وسبارتاكوس، وعنترة بن شدّاد، والزير سالم، وزورو أبو الفردين، وروبن هود، وجيمس بوند، وغرندايزر. وأحياناً أخرى أرى نفسي مخبراً، وهتّافاً في مسيرة، وحماراً، ونعجة، وأرنباً، وفأراً، وصرصاراً. وقد تصل بي الأمور إلى أن أظنّ نفسي طنجرة، وحذاء، وحتى حجراً مرميّاً على الطريق. لكنّ، الأسوأ من كلّ هذا، عندما تجتمع معاً في داخلي، وفي الوقت نفسه، شخصيّات أفعى، وذئب، وعسكريّ ببذلة مموّهة، وزعيم عصابة مافيا، وجلّاد في معتقل أمنيّ، ومعها شخصيّة رئيس البلاد".
يبحث هذا الرجل العادي بين البسطات القديمة والمموّهة – بعد أن يتوه بينها وما إن كان في سوق الحرامية أم سوق السنّة – مرّة عن مصباح علاء الدين السحري، ومرّة عن بساط الريح، وأخرى عن طاقية الاختفاء؛ ليتخلّص مما عليه من استبداد وقهر واضطهاد، مُسقطاً بهذه اللوحة الدرامية على أن السلطة ورموزها عبارة عن سوق للحرامية، وليفضح تجّار النظام والثورة والأزمة، وما يقومون به من عمليات سلب ونهب واحتيال وخطف، ضدّ البيوت التي هجرها ساكنوها، وذلك عن طريق تواصل سرّي منظّم، وكأن هذه الحرب قامت ضدّ سلطة قاطنة في كوكب آخر، حيث يقول في الصفحة (241) من الفصل الواحد والسبعين:
"بضاعتنا مضمونة بجودتها من كبار الضبّاط الميدانيين، الذين قاموا بالحملات الأمنيّة بأنفسهم، بالتعاون مع المخبرين الوسطاء، الذين يعملون سرّاً لمصلحتنا بين الإرهابيين، ويعرفون تفاصيل الحارات والأزقّة المنهوبة. ونضمن لكم أيضاً عدم معرفة لجان التحقيق الدوليّة المستقبليّة بمصادر البضائع المشتراة، حتى لا تُصادَر منكم، إذا تغيّرت الأوضاع، فقد دُمّرَت المنازل والمحالّ التجارية والمزارع، التي سُحبَت منها، بالمتفجّرات، فطارت في السماء، ومن ثم سُوّيَ ركامها أرضاً بالبلدوزورات، إضافة إلى حرق البساتين والغابات...".
وبالعودة إلى الكوميديا السوداء، والتي تصوّر المفارقة الصارخة بين السلوك والقيم، وتتسلّح بالضحك والجنون والهذيان والمحاكاة الساخرة، وهي تؤكّد انحطاط القيم الإنسانية السورية النبيلة، وتحتفل بحياة العبث والإخفاق والسقوط التراجيدي للمواطن السوري، فالكوميديا السوداء هنا هي فلسفة القهر والحزن الممزوجة بالضحك والنُّكتة، ليواصل مازن عرفة ما بدأه في رواياته السابقة، من حيث التأسيس للكتابة الغاضبة التحريضية، فجاءت شفرة حادّة في وجه الاستبداد، الذي يتحكّم بالشرق الأوسط وشعوبه ومجتمعاته وأقلّياته، ففي «وصايا الغبار» الصادرة عام 1102 عن دار التكوين كان هناك الواقع ومآلاته التي أدّت إلى انفجار غضب جماهيري نتج عنه ثورة سلمية أسلمها الجيران الإقليميون وعسكروها، لتبدأ المظاهرات في "الغرانيق"، وتنتهي بتدخّل قبضة العسكر.
إننا أمام رواية نحتار في تصنيفها، إذ هي رواية المراوغة، تجمع بين الرواية الاجتماعية والسياسية والوطنية ورواية تيار الواقعية السحرية، غير أنها تتعدّاها؛ لأنها رغم القذارة الفكرية والمجتمعية والسلطاتية التي بيّنتها جعلت الأبواب في النهاية مفتوحة على احتمالات متعدّدة، وتجاوزت أيضاً تيار العبث، لتطرح الأسئلة الكثيرة، وتشارك القارئ فيها وتجعله مشاركاً في العملية الإبداعية لا بالإجابة عن الأسئلة، وإنما بتأمّل الواقع والوعي بتناقضاته.
استطاع عرفة مناقشة الواقع السوري المرير سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً وإنسانياً وأخلاقياً ودينياً وطائفياً، فنقل الواقع المجتمعي الأليم بسخرية متمكّنة، وطرح معالجات وحلولاً خلف جدران الأفكار وبينَ دهاليزها، ولم يكتفِ بنقل الواقع بسوداويته فقط كعملية تدوين له أو توثيق الأحداث، فالسخرية لديه ليست فعلاً مجّانياً، بل حملت مجموعة رسائل اتصالية واستفسارات مشروعة؛ غرضها التأثير في الآخر، لتحقيق مجموعة كبيرة من الأهداف، حيث يقول في الصفحة (23):
"ولم يُرجعني من الملهى إلى الشقّة سوى عبور صاروخ سكود روسيّ نافذة الغرفة، بطول يبلغ أكثر من عشرين متراً، انفجر محدثاً دويّاً هائلاً مكان تجمّعنا المدنيّ، أنا وزوجتي والأولاد، فطيّر قشور البذر المتناثرة على السجّادة، غير المحميّة بشبكة صواريخ باتريوت الأميركيّة. وانتشر فتات الكعك في فضاء الغرفة بمويجات غبار كثيفة، فبدت مضروبة بالأسلحة الكيماويّة، الأمر الذي سيحرج الأميركان بخطوطهم الحمراء، ويضطرّ الأمم المتّحدة إلى تشكيل لجان تحقيق دوليّة لمعرفة أوضاع الغبار الكعكيّة".
لعله أراد أن يقول هنا إن كلّ ما تقوم به الأمم المتّحدة ومنظّماتها في سورية كان عبارة عن قشور البذار، أيّ أنها مثل الأميركان خطوطها الحمراء تتعلّق بالاعتداء على مصالحها، وليس مصالح الشعوب التي بها تأسّست كمنظّمة دولية.
يمتلك عرفة قدرة خيالية روائية رهيبة ومتميّزة، كما أنني شعرت في بعض الفصول وأنا أسبر أغوار الرواية وأستمرّ بقراءتها مرّة بالتشويق ومرّة بالانبهار ومرّة بالغضب وإطلاق اللعنات ومرّة بالإطالة والشرود، إذ إن الرواية تمتاز ببعض الإطالة، فهل كانت مبرّرة، أم مقصودة؟ إلا أن ذلك لا يخفّف من شأن التشويق والإثارة الفكرية، كما أن الرواية تمتاز بالمفارقة الممزوجة بالمفاجأة، إذ لا يمكن للقارئ أن يتصوّر أن طبول الخراب والحزن والخوف تقرع، وأصوات العويل تصرخ بمناسبة إعلان العسكر تحرير البلدة، كما ويكشف النصّ قدرة السوريين على التلوّن مع كلّ الظروف السياسية التي تعمّ البلد، فالمواطن في الأمس كان يلبس الياسميني، واليوم يرتدي لباس الصحراء، ويتزيّن بالسبحة والخواتم والجباه السود، لينقسم بعد ذلك إلى عصابات خطف وقتل ونهب، والأهم إلى مجاميع قمامة.
من جانب آخر، هناك حقيقة لا بدّ لنا من التطرّق إليها، فحكاية الرجل العادي هي حكاية كلّ سوري، سواء كان كردياً أو أرمنياً أو آشورياً أو درزياً أو علوياً، هي حكاية كلّ إنسان صادق مع ذاته وأهله ومجتمعه ووطنه، ومن هنا فالوصف المدهش في الرواية كان غرائبياً ومرعباً، يجعلك تعيش الحالة برمّتها وتنتشي في سيميائياتها، فيما المونولوج الذي يرويه هذا الرجل الدرويش مبهر جدّاً، بفكاهيته وانتقاديته وذاتيته المؤلمة، التي تنخر في ذاكرة طقوس القراءة، فيبني أساساً على ثيمة البوح النفسي، ليساهم في الكشف عن تطوّر الأحداث في نسيج النصّ، وخلق ديناميكية ذهنية ذات دلالات تثْريه بجمالية فنّية تعمد على قابلية المتلقّي من خلال الوقوف على الجوانب التأويلية، سواء ما يتعلّق بالحدث أو الشخصية. أما التخفيف في الديالوج (الحوار) فكانت صدمة – صبغة جديدة على كاهل تقنيات الرواية.
تنتهي الرواية في فصولها الأخيرة بدعوة الكاتب إلى التسلّح بستّة مبادئ من أجل حياة مجتمعية علمانية متسامحة دون طوائف، كرؤية إنسانية للتعامل مع الإنسان في العصر الراهن، وبمطالبته عبر رقصات تعبيرية عن الحرّية والمساواة والعدالة، كالرقص مع الطبيعة والرقص في المعبد والرقص الصوفي؛ ذلك أن الرقص هو لغة التحدّي والتعبير عن الحرّية، فيصبح هذا البطل شخصية الكاوبوي، الذي يأتي ويختفي من اللامكان، وزوربا الذي يرقص ويتحدّى الأرض.
يبقى أن أشير إلى كلام مهمّ وضروري، إذ إن مازن عرفة لا يكتب الرواية السياسية، أيّ أنه لا يطرح القضايا السياسية فقط، بل يتخطّاها تقنياً وأدبياً وطرحاً فكرياً، فمَن يقرأ له سيكتشف أنه يكتب أدباً جديداً متمرّداً خارجاً عن المألوف السردي الكلاسيكي – التقليدي من حبكة وذروة وخاتمة، تماماً كرفض الشعوب في الشرق الأوسط أشكال الحكم القديمة المهترئة، كحالة عكسية متبادلة ومتداخلة، من الستالينية والليبرالية والاستهلاكية الدينية والاستبداد الشرقي، لأن الرواية الكلاسيكية غير قادرة على مواكبة هذه التحوّلات والتغيّرات الجديدة، والتعبير عن واقع الإنسان الممزّق، الذي يحاول النهوض والتعايش مع واقعه الجديد، ومقاومته بأحلام يقظة أو مونولوجات – سرديات داخلية أو عوالم الهلوسات وانكسارها وإسقاطها على الحياة والظروف المعاشة، إذاً فالأجواء والتحوّلات الجديدة في العالم انعكست على كتابة الرواية، ما يعني - وضروري جدّاً - أن نقترب من "سرير على الجبهة" أدبياً أكثر من سياسياً؛ فالأدب هو الوحيد القادر على التعبير عن تمزّقات جسد وانكسارات روح هذا الإنسان المهمّش والمدمّر.
رواية "سرير على الجبهة" هي في الواقع ليست مجرّد رواية كُتبت وطُبعت ونُشرت، إنها لعبة سردية مدروسة، تقودنا بحذر للدخول والخروج من متاهة لا نهاية لها، وإعادة تأمّل الدلالات التأويلية والسيميائية فيها، التي قد تسبّب صدمة للقارئ، فيهرب من عالمها الكابوسي الكافكوي، الموجع والفاجع؛ خشية من دخول العصفورية، حيث يتداخل فيها الواقعي بالإيهامي والفانتازي بالأسطوري، وهي بحسب قراءتي لها مرّتين متتاليتين، مؤشّر كبير ومهمّ على نضج التجربة الروائية الجديدة في سورية والعالم العربي، وعلى تجاوز كتّاب الرواية السوريين مرحلة الفطام وانتقالهم إلى مرحلة التحريض والتحدّي والعبور إلى لغات وثقافات أخرى، إذ كانت بحقّ رواية تعبّر عن أدب الكوميديا السوداء والهازئة لما حلّ بسورية وشعبها الفسيفسائي، وعلى كبريات مراكز القرار والتحكّم في العالم قراءتها، والتمعّن فيها، وفي مقدّمتها مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.
أخيراً، إن مَن يقرأ السريالية والواقعية السحرية الموجودة في هذه الرواية البديعية ستصيبه حالة من الشكّ المليء بأسئلة محقّة مدهشة، وسيتّهم ساردها أو كاتبها بالمبالغة المفرطة في تلويع الحكايا وتفاصيلها ودلالاتها، وحتى يتغلّب على شكّه لا بدّ له من العودة إلى روايته التنبّؤية الأولى وصايا الغبار، ومن ثم الغرانيق وصولاً إلى سرير على الجبهة، وقراءة الفصل الأخير منها، الذي عنوانه "إضاءة بمثابة خاتمة"، حيث اضطرّ مازن لوضعه؛ للتوضيح والتأكيد على الرموز والدلالات الواقعيّة لغالبية أحداث روايته، والأهم أن يتأمّل هذا القارئ الكلام الذي كتبته "رنا حايك"، محرّرة القسم العربي في دار نوفل على خلفية لوحة الغلاف، وهو كلام أعطى الرواية حقّها وقيمة أدبية إضافية، إذ تقول "يزجّ عرفة المطلق في قلب الملموس، والمجازيّ في صخب الواقعيّ، والفانتازيّ في منطقة اشتباك الحلم بالحقيقة".
وفيما يلي بعض الأقوال واللوحات التي جاءت في الرواية، والتي تشكّل حضوراً فكرياً وسياسياً في حياتنا اليومية:
• إلا أنّني لم أكن أعرف أهمية بنايتنا الاستراتيجيّة، على مستوى الأحلاف العسكريّة الدوليّة العابرة للقارّات، والحملات العالمية لمكافحة الإرهاب.
• الحرب خدعة، والمنتصر فيها هو مَن يكشف خطط الثعلب المكّار.
• وما إن أنهيت الخطاب حتّى قام أولادي الخمسة عن الأريكة، وهم يهتفون بحياتي الحاضرة والغائبة، والظاهريّة والباطنيّة، من دون أن ينتبهوا لسقوط الصور الوطنيّة المقدّسة على السجّادة، تحت أقدامهم. وحمل أكبر الصبيان منهم على كتفيه قارع الطناجر، ليهتف بصوت طفوليّ، لكنّه مليء بالحماسة الوطنيّة، وهو يقرع على طنجرة نحاسيّة بملعقة خشبيّة، كما في عراضة شاميّة "يعيش سوبرمان، والوطواط، وتوم وجيري، وميكي ماوس، وباباي البحّار... كلّهم فداء للفراريج السنفوريّة".
• لا، هذه رياضيات حديثة، لا يفهمها جيلكم، الرياضيات التي تعلّمتموها هي الخاطئة، فهي التي تجعل الإحداثيات لديكم يسبّب سقوط قذائف الهاون على المدنيين.
• أنا كلّما نمتُ مع امرأة، اقتطعت للذكرى عضواً منها، فخذاً، عانةً، ثدياً، وجهاً، مؤخّرةً، بحسب الحالة الشعريّة التي أمرّ فيها، وأحطّ عليه بسجل تعريف بأصوله، وأحتفظ به...
• تستطيع أن تُركّب منها أجساد نساء تنام معهنّ ريثما تُحلّ مشاكلك مع بنات الجيران. وأخبرك بأنّني رجل وطني، لا أنام إلا مع نساء من بلدي، لأنّهنّ يمثّلن تراثنا الوطني الأصيل. لذلك فالأعضاء جميعها محلّية الصنع، لا غشّ، ومغلّفة بالعلم الوطني..
• بما أنّني أقف عارياً أمام الصواني، مثل أفراد الهومو سابيان الأوائل، في القطعان البشريّة الأولى، أعلنت: كلّ كائن بشري هو في أصله إنسان، لا قرد يقفز على الشجر، كما يسخر منه منتقدو الداروينيّة، من كهنة المعابد الدينيّة، ولا حمار غبي، كما يراه العسكر في بلادنا. وهذا يعني أنّ الإنسان كائن بشري، له حرمة الدم واعتبارات الكرامة الإنسانيّة.
• خلعت ملابسي العصريّة، وارتديت ملابس فلكلوريّة من بلدي: شروالاً درزيّاً، وفوقه ثوباً كهنوتيّاً مسيحيّاً، ورداء طويلاً علويّاً، وعمامة سنّيّة، وقلبقاً شركسيّاً، وعباءة تركمانيّة، وزنّاراً كرديّاً، وخفّاً إسماعيليّاً، ووقفت بها مختالاً كالطاووس أمام الصواني، وأعلنت: لا تشكل الأصول الدينيّة، أو الطائفيّة، أو العشائريّة، أو الإثنيّة، مادّة للخلافات والمنازعات، سواء على المستوى المحلّي، أو الإقليمي، أو الدولي، وإنما تنتج كلّ واحدة منها ثقافة فرعيّة مميّزة، ترفد الثقافة الجمعيّة القائمة على التعدّديّة بغنى متنوع، ما يؤدّي إلى إنتاج هويّة وطنيّة متميّزة، تجمع المواطنين معاً.