"أدخل المول من أحد أبوابه التسعة والستين. هو أكبر مول في أميركا الشمالية، يمتدّ أفقياً ليحتلّ مساحة ثمانية مربعات سكنية. هو بمثابة حي تجاري كامل في مدينة تفتقد لهذا المفهوم، وعلى الرغم من وقوعه في غربها، فهو "وسط المدينة" في مدينة لا وسط لها ولا مركز".
يجسّد هذا المقطع من إحدى قصص مجموعة ياسر عبد اللطيف، "يونس في أحشاء الحوت"، انهماك الشاعر المصري (1969) بمراقبة المكان: مساحته، موقعه، أبوابه. بل إن هذا المقطع، على صغره، يحتوي ثماني دلالات مختلفة للمكان: مول، أميركا، مساحة، مربعات سكنية، حي، مدينة، وسط، مركز.
هكذا هي معظم قصص المجموعة، التي صدرت طبعتها "الجيب" عن "مكتبة الأسرة" حديثاً، ويلعب المكان فيها دور البطولة، بينما يتحوّل الإنسان إلى كائن صامت كئيب ومتأمّل، يعيش على ما يمنحه المكان من تفاصيل، وعلى هبة المصادفات.
لنر كيف تغرق الشخصية في قصة "أربع دراسات لضوء النهار" في وصفها لجدار: "كنت أقف في جوار حائط مطلي بالجير الوردي تمت تغطيته بشبكة من شرائح خشبية رفيعة طليت باللون الأخضر. الشبكة الخشبية جُعلت لتسلّق أفرع للِّبلاب من المفترض أن تنطلق من حوض رخامي مملوء بالطين أسفل الحائط".
هذا الغرق يؤكد على فكرتنا عن أهمية المكان عند عبد اللطيف، وعلوّه كمكوّن سردي فوق الزمان والشخوص.
نقرأ في قصة "إحراز الهدف": "تركنا حي "المعادي" خلفنا واتجهنا شمالاً. قطعنا شارع "حسنين الدسوقي" الصاخب وانزلقنا في حواري "الحدائق" التي تتمدّد كالشقوق في تقاطعات أفقية ورأسية، حتى تلتحم مع أدغال "دار السلام" دون حدود إدارية أو جغرافية". هنا، تبدو الإشارة واضحة إلى التلاحم غير المتناسق في القاهرة ما بين الأحياء الراقية والمناطق المهمّشة، بكل ما يحمل ذلك من دلالات.
عبد اللطيف مشغول أيضاً بالتحوّلات الطبقية، وبرصد التغيّرات التي لحقت بالمجتمع المصري. يظهر ذلك بوضوح في قصة "أمثولة الكلب الأبيض"، التي يثور فيها الكلب على حياته، بين كلاب حي "طُرة"، فيقرر الرحيل بحثاً عن فرصة أكبر للعيش: "فكان كل ما فعله هو أن عبر الترعة الجافة التي تفصل الحيين المتجاورين عن بعضهما فصلاً طبقياً وحضارياً متعسفاً، وحط رحاله في منطقة ثكنات المعادي، وبالتحديد بجوار مطعم "ماكدونالدز" للوجبات السريعة".
تظهر شخصيات الكاتب الإبداعية المتنوعة في معظم قصص المجموعة، فأحيانا نجد عبد اللطيف الشاعر (الذي صدرت له مجموعتان: "ناس وأحجار" و"جولة ليلية")، مستخدماً لغة شعرية مكثّفة، وأحياناً أخرى نلتقط نفسه الروائي (صدرت له رواية واحدة بعنوان "قانون الوراثة").
ابتكر القاص في المجموعة، التي تضم عشر قصص، رابطاً خفيّاً بينها جميعاً، استطاع من خلاله أن يجمع بين عوالم شديدة التباعد، وأتاح له أن يعود بعفوية إلى مراحل حياته المبكرة في القاهرة، أو أن يطير إلى كندا، حيث يعيش حالياً.