تتميّز عُدّة الروائي بغناها وانفتاحها على معارف وعلوم أخرى، ويبرز التاريخ عن باقي الأدوات الأخرى مثل علم النفس والسياسة مثلاً كأكثرها غواية لدرجة أنه يوجد فن روائي قائم بذاته هو الرواية التاريخية.
غير أن هذا النمط من الكتابة الروائية يغدو معضلة حقيقية وفخاً صعب التجاوز نتيجة قربه الشديد من "فن" أو "علم" التاريخ، إذ الواجب أن تطغى متعة التخييل على متعة التأريخ، كما أن الحوادث التاريخية لا يجب أن تكون سوى منفذ لتسريب راهنيّة معينة أو معالجةً وبعثاً جديداً لقضية لم يشأ المنتصر، صاحب اليد الطولى غالباً في كتابة التاريخ، إفراد مساحة لها.
تقتفي الرواية الجزائرية، المكتوبة بالعربية خصوصاً، منذ مدة شهوة التاريخ وتحاول بتجاربها المتنوعة تشكيل تقليد روائي تاريخي جزائري، ونشهد إثر ذلك عودة متواصلة إلى الماضي، القريب منه بالأخص، بدوافع وغايات متباينة، إلى تاريخ الثورة الجزائرية مثلاً أو إلى أزمة التسعينيات في محاولة لمقاربة هذه الفترات المفصلية في تاريخ الجزائر المعاصر.
في المقابل، يقبع التاريخ السابق عليه، أي التاريخ الحديث، بمختلف بياضاته التي لم تخالطها لماماً سوى أقلام المؤرخين، كـ"لا مفكر فيه" داخل المتن الأدبي الجزائري عامةً، لترتفع بذلك درجة إغرائه، مما جعل روائية شابة هي هاجر قويدري تنبري مجدّداً للكتابة الفنية لهذا الفراغ الروائي، وذلك في عملها الجديد "الرايس" الصادر عن "منشورات الاختلاف" في الجزائر و"منشورات ضفاف" اللبنانية، والذي اتخذ فترة الحكم العثماني للجزائر فرصة ثانية من أجل الاشتغال على الرواية التاريخية، وذلك بعد روايتها الأولى "نورس باشا" ("جائزة الطيب صالح العالمية"، 2012) حول الفترة التاريخية نفسها.
تتوزّع الحكاية في "الرايس" عبر نوافذ سردية عدّة تطل منها سبعة أصوات أو "أحاديث" كاملة، تحاول كل منها بدرجات متفاوتة إعادة تشكيل جزء من قصة الرايس حميدو، القائد البحري الجزائري الشهير نهاية القرن الثامن عشر؛ واللافت بدءاً حول هؤلاء "المحَدّثِين" هو تراوح جنسياتهم وعرقياتهم في محاولة لنقل فسيفساء البحر المتوسط و"أيالة الجزائر" آنذاك.
كما تتمايز قصصهم أحياناً وتتقاطع أحياناً أخرى بشكل يبدو معه أن كل واحد يمسك بقطعة من السردية الكبرى. ولذلك نجد أن هذه الأحاديث تمرّ بمحاذاة كل شيء تقريباً، بمحاذاة الأجواء العثمانية في قصبة الجزائر، وبمحاذاة دسائس السياسة، وبمحاذاة المعارك البحرية.
وهكذا يبدو أنها تلتف دوماً حول الحكاية الأصلية مُشكّلةً بورتريه كبيراً حاول أن يصيب أجزاء عدة في آن واحد من تاريخ "الدزاير" في تلك المرحلة، مما جعل الرواية، بنَفَسِها القصصي وعناصرها العديدة، تقارب الشكل الملحمي دون أن تتبلور كملحمة روائية.
غواية التجريب تدفع قويدري لتبني تقنيات محدثة في السرد، فها هي تفتّت البطولة وتقسمها على وفرة من الأبطال الأساسيين عوض بطل رئيسي تقليدي، كما لا تشغل وحدة الزمن واستمراريته بال الكاتبة، فنراها تسير بحرية بين السنين والشهور عبر النوافذ السردية للرواة السبعة لتربط بين أحداث متباعدة، ولجأت إثر هذه الاختزالية إلى تسريع الحدث وتلخيصه في جمل وأحاديث الشخصيات لتختفي بذلك الحبكة بمفهومها الكلاسيكي وتُستبدل بما يشبه "حبكة - مضادة" نابعة من خيار التجريب الذي تبنته الروائية.
في غياب تجربة سابقة ومؤسِسةً ينبني عليها تقليد روائي راسخ، تبدو "الرايس"، على الرغم من وفائها الكبير للوقائع التاريخية، كمحاولة جريئة وواعية لتشكيل وجه جديد وفني للجزائر العثمانية ولرسم تفاصيل مرحلة معتمة فنياً من تاريخ الجزائر.
اقرأ أيضاً: قصر الداي: تصدّعات الإرث العثماني