تنطبق على أنطونيو بورشيا شذرته القائلة "قبل أن أمشي طريقي كنتُه"، وتجدر قبل قراءة منجزه النوعي الإشارة إلى أنه عنون كتابه "أصوات" (دار أزمنة) لاعتقاده بأن "كل الأشياء تُسمع والمرء يسمع كل شيء"، كما توضّح مقدمة المترجم وليد السويركي.
لم ينشر بورشيا (1885- 1968) سوى مجموعة يتيمة في السادسة والخمسين من عمره، بإلحاح أصدقائه الفنانين، ولمّا لم تُبع نسخها الألف، اختار أن يهديها كلها إلى المكتبات العمومية، فنالت هذه الحركة شعبية واسعة بعد ذلك بسنوات، ومنحته اعترافاً متأخراً من النقاد والأدباء باعتباره "أعظم إضافة للأدب المكتوب بالإسبانية خلال النصف الأول من القرن العشرين"، كما قال الفرنسي أندريه بريتون.
لم يشأ الإيطالي المولد والنشأة، والأرجنتيني الإقامة والوفاة، أن يوثّق عذابات حياته وتفاصيلها؛ هو الذي صار يتيماً في السابعة عشرة من عمره، وهاجر برفقه والدته وستة إخوة إلى الأرجنتين ليتولّى مسؤولية الإنفاق على الأسرة، متنقلاً بين مهن عدّة ستكون آخرها إدارته مطبعة صغيرة اشتراها مع أحد أشقائه، لكنه سيقرر العزلة بداية من 1936 منصرفاً للكتابة والاعتناء بحديقته بعيداً عن الأوساط الأدبية.
كتابة بورشيا مزجت روحاً أميركية لاتينية مع المتعارف الأوروبي في التنظير للشذرات كـ "تخليد" للّحظة. "بلا كلمات تقريباً" جاء بكتابه الوحيد "أصوات"، ليواجه "العالم الذي لا يفهم شيئاً من دون كلمات"، ويشغل كتّاب عصره من أمثال بريتون وبورخيس وميللر بشذراتٍ، هي كل ما كتب طوال حياته، لعله يحتمل وحشة الوجود الإنساني.
عبر تكثيفها باللجوء إلى الترميز والمفارقة والتأمل، تُظهر شذراته فائض المرارة تجاه البشرية مثل معظم من احترفوا كتابة هذا النوع الأدبي، وعلى هذا النحو يمكن النظر إلى إعلانه: "أظن نفسي مساوياً للجميع، ومع ذلك، فإن ظني أنني مساوٍ للجميع يجعلني مختلفاً عن الجميع".
تحاكي "أصوات" بورشيا بعضاً من شذرات نيتشه وما تنطوي عليه من ممارسة الشك في المعرفة وانتقاد معانيها المكرّسة، فتطرح كل شذرة أسئلتها في وجه السائد بل تهجوه أيضاً، غير أن بورشيا يختلف عن نيتشه من حيث البعد الفلسفي الذي اتخذته كتابات الأخير، وربما هذا ما جعله يعترف: "شيء من السذاجة لم يفارقني قط. ذلك ما يحميني".
يقترب مؤلف "أصوات" في وجه من تجربته من الروماني إميل سيوران، إذ كتب الأول بالإسبانية، لغة غير لغته، مثلما فعل الثاني الذي هجر الرومانية وكتَب بالفرنسية. الالتقاء في الكتابة بغير اللغة الأم لا يعني شبهاً بين الكاتبين، فقد كانت غربة سيوران اللغوية تعبيراً عن سخريته وعبثه المطلق حيال الكون، ولم يفوّت الفرصة ليعبّر عن احتقاره لفرنسا "القذرة"، التي لا يحب فيها سوى مقابرها الريفية.
بينما لا تبدو غربة اللغة لدى بورشيا عائقاً بينه وبين ثقافته ومجتمعه الذي هاجر إليه، بل إنه انخرط في العمل الكادح (وليس الفكري فقط)، وبنى صداقات متينة فيه، وانتمى - في فترة معينة معيّنة من حياته - إلى مجموعة يسارية أطلقت وقتها مجلةً لنشر أفكارها الاحتجاجية.
نجح بورشيا في مقاومة معاناته الحياتية وجنون العالم معاً بوصفهما أزمته الشخصية، واستطاع أن ينفذ إلى ما وراءها عبر التأمل العميق لا عن طريق الدرس المعرفي، وهو الذي لم يتلق تعليماً أكاديمياً، مقدماً نمطاً جديداً ومختلفاً من الشذرات لكاتب لاتيني يجترح كتابة مقاوِمة تتسامى على الواقع رغم أنها تبحث عن الحياة في كل ذرة منها، كتابة تطهرية يطفو من خلالها الألم كونه لازمة "ضرورية" للإنسان المعاصر. كتب يقول "لا شكل للوجع الإنساني حين يكون نائماً، فإذا أوقظ اتخذ شكل من أيقظه".